ولكننا إذا قلنا إن قليل الذهب أغلى من كثير الحديد، فلا يلزم من ذلك أن الحديد ناقص في صفاته المعدنية، لأنه قد يكون في بابه على غاية من الجودة والمتانة، وإنما يلزم منه أن معدن الذهب أغلى من معدن الحديد
وهذا بعينه الذي قصدنا إليه حين قلنا إن قليل الشعر يحتوي من الثروة الشعورية ما ليست تحتويه الصفحات المطولات من الروايات، فإن احتياج القصة إلى التطويل لبلوغ أثر الشعر الموجز هو وحده الذي يبين لنا أن قنطارا من القصة يساوي درهما من الشعر، وإن القصة في معدنها دون الشعر في معدنه، لأن النفاسة هي أن يساوي الشيء القليل ما يساويه الشيء الكثير
أيقول الأستاذ إن خمسين صفحة من القصة لازمة للتصوير والحوار الذي يتحقق به سياق القصة؟
حسن. فهذا اللزوم نفسه هو الذي ينزل بها دون منزلة الشعر في متعة الذهن والخيال، لأن الشعر بغير حوار وبغير تمهيد من أمثال تلك التمهيدات القصصية يعطينا في خمسين صفحة أضعاف ما نعطاه في تلك الصفحات، بل هي لا تعطينا في القصة شيئاً إلا إذا وصلت بعد التمهيد والحوار إلى مادة الشعر في لبابها: وهي التصوير والخيال
وقال الأستاذ عن المقياس الثاني:(أما المقياس الثاني فأحسبه ليس كذلك فاصلا، فالطبقات الدنيا في الثقافة أو في الأخلاق لا تروج عندها إلا أنواع خاصة من القصص ليست هي التي يفاضل بينها الكاتب وبين الشعر، وكما يروج عندهم نوع من القصص رخيص كذلك يروج عندهم أنواع من الشعر رخيصة، على أننا نجد أن ميل العامة ليس دائماً إلى القصص، فهناك من الأمم ما يميل عامتها وخاصتها إلى الشعر ويروج عندهم. . .)
ونقول نحن إن ميل بعض العامة إلى الشعر صحيح، ولكن حين يكون الشعر قصة، وحين يكون الشعر من قبيل ملاحم الهلالي والزير سالم. أما حين يكون الشعر وصفا كوصف ابن الرومي أو البحتري، وحكمة كحكمة أبي الطيب وأبي العلاء، وفخرا كفخر الشريف وأبي فراس، فالعامة لا تفضله على القصص التي تفهمها، وإن أسفت غاية الإسفاف
ومما لاشك فيه أن عدد النسخ التي تصدر من ديوان المتنبي في الطبعة الواحدة أقل من