حينئذ يصبح منزعاً من طبيعة التراحم، فأما انتسخ به قانون التنازع الطبيعي، وإما كسر من شِرتَّه، ويولد المولود يومئذ وتولد معه الأخلاق الإنسانية.
تقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر، وضبط ذلك برياضة عملية دائمة مفروضة على الناس جميعاً - هذا هو أساس العقيدة الإسلامية. ولا صلاح للإنسانية بغيره يردّها إلى سبيل قصدها، فان من ذلك تكون الصفة العقلية التي تغلب على المجتمع وتجانس بين أفراده، فتوجّه الإنسانية كلها نحو الممكن من كمالها، ولا تزال توجَّهها نحو ما هو أعلى، وتحكم فاسدها بصالحها، وتأخذ عاصيها بمطيعها، وتجعل الشرف الإنساني غرضها الأول، لأن الله الحقّ غرضُها الأخير؛ فيصبح المرء - وهذا دينه - كلما تقدم به العمر كمل فيه اثنان: الإنسان، والشريعة. ولا يعود طالب السعادة النفسية في الدنيا كالمجنون يجري وراء ظله ليمسكه؛ فلا يدرك في الآخر شيئاً غير معرفته أنه كان في عمل باطل وسعى ضائع.
والإسلام يحرص أشد الحرص وأبلغه على تقرير ذلك المعنى الإلهي العظيم، لا بالمنطق ولكن بالعمل؛ ثم في النفس وعواطفها لا في العقل وآرائه؛ ثم على وجه التعميم دون الاستثناء والخصوص، وذلك هو سر مشقته على النفس بما يفرضه عليها؛ فان فلسفته أن هذه النفس هي أساس العالم، وأن النظام الخلقي هو أساس النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة ولا يبلغ الكسل والإهمال. وللنفس وجهان: ما تعلن، وما تُسرّ. ولا صدق لإعلانها حتى يصدق ضميرها، ولا صلاح لجهرها حتى يصلح السرّ فيها، ولا يكون الإنسان الاجتماعي فاضلاً بِمشَهدهِ حتى يكون كذلك بغيبه. وللعالم كذلك وجهان: حاضره الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له. ولا يفلح حاضر منقطع لا يُوَرِّث ما بعده كما وَرِث ما قبله، وما حاضر الإنسانية إلا جزء من عمل الناس في استمرار فضائلهم باقية نامية. وللنظام أيضاً وجهان: نظام الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنّفْرة منها. ولا يستقيم شأن ليس أساسه الطاعة في النفس، ولا يستمر نظام عليه خلاف من فكر العامل به. وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجادّ يعمل للعاقبة يستيقنها، فلا يجد مما يشق عليه إلا لذة المغالبة للنصر، كل مرارة من قبله هي حلاوة فيه من بعد، ولا يعرف للمحنة يبتلى بها إلا