أزمة البطالة بإنشاء طوفان من صناعات الحرب، ولكنه كان محتاجا إلى قوته الجدلية (فوق العادية) في مواقف أخرى كموقفه من أسئلة صاحبه المحرجة عما وراء الطبيعة وسر الوجود، وموقفه في الدفاع عن البومة المسكينة التي ظفر لها لأول مرة في التاريخ بحكم البراءة من تهمة النحس اللاصقة بها على الأجيال، وموقفه إزاء اعتراض صاحبه حين استمع إلى المفاضلة بين جمال الدين ومحمد عبده: قال العقاد إن الأول أعظم أثرا وإن الثاني أعظم نفسا. فسأله صاحبه بم، فأجاب (بالإيثار) فقال دهشا: (ومحمد عبده الذي تسنم المناصب ولم يحرم نفسه متعة الأبوة والزواج أعظم إيثاراً من جمال الدين؟) إن الاعتراض قد أصاب المحز وظن القارئ أن المحامي قد أسقط في يده، ولكن المحامي القدير مستعد بالجواب:(قلت: قد تكون العزوبة مزيداً من الاعتداد بالشخصية، وقد تكون الأبوة مزيدا من الإيثار)
- ٣ -
وإذا كنت قد أحسست في بعض المواضع أني أمام محام قدير فإني قد أحسست في مواضع أخرى أني أمام قريحة فقهية متمكنة، فإن من خير مزايا الفقيه أن يميز بين المتشابهات، فلا تنبهم عليه الأمور حين تتشاكل. هذا الإحساس الدقيق بالفروق الناعمة ثم هذه القدرة الجبارة في تجلية الفروق و (تجنيب) كل مشتبه على حدة، هما أمران يطالعاننا في مواضع كثيرة من الكتاب وحسبي أن أسوق أمثلة وأشير إلى أخرى: اسمع إليه حين ينحى صاحبه باللائمة على الموسيقى الشرقية لأنها لا تصور المعاني ويندفع إلى حيث يقول: (إنما يسوغ التعبير الموسيقي في معاني المذاهب الفلسفية عند طبائع الغربيين ولا يسوغ عند طبائعنا نحن الشرقيين). فيجيبه العقاد:(لا أحب أن أظلم الطبائع الشرقية ولا أود أن أفرد الطبائع الغربية دون سواها بتلك الفضيلة. فإن الموسيقى الغربية لم تكن من قديم الزمان على هذا الطراز الذي نسمعه من بتهوفن وأمثاله. ولعلنا نقترب إلى الإنصاف وندنو من التحقيق حين نقسم الموسيقى إلى منهجين يختلفان باختلاف الذوق والبديهة ولا نقسمها إلى إقليمين جغرافيين بين أناس في الشرق، وأناس في الغرب، أو أناس في الشمال، وأناس في الجنوب).
ثم استمع إليه بين فضل عظماء الموسيقى إلى جوار عظماء السياسة والاجتماع: (لا