قال العقاد لصاحبه وهو يحاوره:(. . إنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهي الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون. . . ما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات؟ إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:
وتلفتت عيني فمذ بعدت ... عني الطلول تلفت القلب
إلى أن قال: (أما مقياس الطبقة. . . فلا خلاف في منزلة الطبقة التي تروج بينها القصة دون غيرها من الفنون الخ)
هذان هما المقياسان اللذان قضى بينهما العقاد على القصة بالهوان وما هي القصة؟ هي سيدة فنون الآداب دون منازع لثلاثة قرون خلت من أزهى عمر البشرية، هي الفن الذي جذب إليه أكبر عبقريات الأدب في جميع الدنيا المتحضرة المثقفة. فما حقيقة هذين المقياسين؟
أما عن الأداة والمحصول، فالحق أنهما شيء واحد في كل فن رفيع، ففي الشعر الجيد كما في القصة الجيدة تتحد الأداة والمحصول، وهذا يتفق ومعنى البلاغة الذي يقول فيه الزيات:(إنها هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق ولا بين الفكرة والكلمة ولا بين الموضوع والشكل). ذلك المعنى الذي أعجب به العقاد أيما إعجاب (الرسالة رقم ٦٣١). ففي الفن الجيد - قصة كان أو شعرا - ينمحي التنافر بين الأداة والمحصول، فإذا زادت الأداة على المحصول فذلك شاهد ضعف أو ركاكة قد يعتوران الشعر كما قد يعتوران القصة، ولكنه ليس صفة ملازمة للقصة دون غيرها من فنون الأدب، فهذا المقياس نافع للتمييز بين الجيد والرديء من آيات الفن الواحد، لا للموازنة بين الفنون المختلفة، لأن كل فن في ذاته يشترط الانسجام الكلي بين أداته ومحصوله. إذا كيف يرى العقاد كثرة الأداة وقلة المحصول صفة ملازمة للقصة؟! لا أجد لذلك تفسيرا إلا إذا كان العقاد يعد التفاصيل في القصة زيادة في الأداة، وإلا إذا كان يعتبر القصة عملا أدبيا مطولا ذا مغزى يمكن تلخيصه في بيت واحد من الشعر. وهذا تفسير عجيب إن صح. فالقصة لا ترمي لمغزى يمكن تلخيصه في بيت من الشعر، ولكنها صورة من الحياة، كل فصل منها يمثل جزءا من الصورة العامة، وكل عبارة تعين على رسم جزء من هذا الجزء، فكل كلمة وكل حركة