تشترك في إحداث نغمة عامة لها دلالتها النفسية والإنسانية، وكل جملة - في القصة الجيدة - تقرأ وتستعاد قراءتها ولا يغني عنها شيء من شعر أو نثر. ولا تحسين التفاصيل في القصة مجرد ملء فراغ، ولكنها ميزة الرواية حقا على فنون القصة الأخرى وفنون الأدب عامة. وهي لم توجد اعتباطا ولكنها جاءت نتيجة لتطور العصر العلمي العام، فالعلم هو الذي وجه الانتباه للأجزاء والتفاصيل، بعد أن ركزته الفلسفة طويلا في الكليات. اكتشف العلم لكل جزء من أجزاء المادة - حتى الذرة - حياة وأهمية، وبدت آثار هذه النزعة العلمية في عالم الآداب في عناية الرواية بالتفاصيل، لم يعد الأدب يكتفي بتحضير الأقراص المركزة، وأدرك أن التفاته أو فلتة لسانية أو حال إنسان وهو يتناول طعامه، كل أولئك أمور لها دلالتها النفسية وتعبيرها الصادق عن الحياة. ومن عجب حقا أن العقاد يعلم ذلك كله، وأنا أذكر أنه كتب مرة - لا أدري متى ولا أين - عن توماس مان، فاشار إلى تفاصيله الدقيقة في رواياته وبراعتها في الدلالة والتأثير، فكيف يساوي بيت من الشعر خمسين صفحة من قصة؟ بل هل نغالي إذا قلنا إن صفحة من قصة تحتاج لعشرات البيوت من الشعر لتحيط بدقائقها وجمالها؟! خذ مثلا هذا البيت من الشعر الذي استشهد به العقاد (وتلفتت عيني. . .) ولنفرض أننا نريد أن نستوحيه أقصوصة، فماذا نصنع؟ أما الشاعر فقد تصور المعنى وليس هو بالبعيد المنال وصبه في هذا القالب الجميل. أما القاص فينبغي أن يتصور إلى ذلك ذكرا وأنثى، ويتخيل لكل منهما نموذجا بشريا خاصا، وعليه أن يصور زمانا ومكانا، وموقف وداع، تارة محسوس تلتفت فيه الأعين، وتارة معنوي يتلفت فيه القلب. فليس هذا العرض هو نفس البيت ولا أكثر، ولكن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الشجرة النامية ذات الزهر والثمر والبذرة الضئيلة، لقد رمى بعض المتعصبين للأجناس العرب بضعف الخيال والعجز عن الإبداع والتحليل والتفصيل والاكتفاء بتصور المعاني وتركيزها، فهل يريد العقاد أن يؤيد هذه الأقوال الجائرة؟! والواقع أن الإبداع الفني لا يتمثل في عمل أدبي كما يتمثل في أدب القصة. ولذلك اتخذ أغلب السفر الخالد صورة من صور القصة كالملحمة والتمثيلية. هذا بعض ما يقال في المقياس الأول
وأما المقياس الثاني، فهو مقياس الطبقة، يريد العقاد أن يقول: إن القصة تنتشر في طبقة لا يتنازل إليها الشعر، وإذا فالشعر أرقى من القصة. وهذا قول وجيه من الظاهر! ولكنه لا