للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ينطوي على شيء خطير، فمجرد انتشار فن في طبقة لا يدل على شيء ما لم يبحث أسباب انتشاره. فالموسيقى تنتشر في جميع الطبقات حتى بين الأميين، فهل يقال إن النحت مثلا أرقى منها لأنه لا يكاد يتذوقه إلا رواد المتاحف؟! ثم ما هي القصة المنتشرة حقا؟ أليست هي قصة الجريمة والمخاطرة والغرام المبتذل؟ وكل أولئك ليس من القصة الفنية في شيء. القصة الفنية - كما يعلم الدارسون لهذا الفن - حكاية تروى كالقصة المبتذلة، إلا إنه يشترط فيها أن تعرض في ثنايا روايتها قيمة إنسانية أو أكثر كتصوير الشخوص وتحليل النفس والشاعرية والفكاهة والمعاني الفلسفية والآراء الاجتماعية، بل من القاصين المحدثين من يستهين بالحكاية ويقنع بالقيم، فإذا خلت القصة من هذه القيم، فهي حكاية وليست قصة فنية، ولا يجوز لمنصف أن يحكم بها على هذا الفن وإلا جاز لنا أن نحكم على الشعر ببعض الأزجال الجنسية التي يحفظها العوام.

أجل إن القصة لا تزال أعظم انتشارا من الشعر ولكن أكان ذلك لسيئة فيها أم لحسنة؟ إن الخاصة التي تقرأ الشعر الرفيع وتتذوقه تقرأ القصة الرفيعة وتشغف بها، وإذا كان العقاد لا يقرأ القصة إلا مضطرا فطه والمازني والحكيم وايزنهاور يقرءونها بغير اضطرار. ولئن انتشرت القصة في طبقات أخرى فما ذلك لسيئة بها ولكن لحسنتين معروفتين: سهولة العرض والتشويق. فانتشار القصة الجيدة بين قوم لا يهضمون الشعر الجيد مرده إلى أن القصة في ظاهرها حكاية تروى يستطيع أن يستمتع بها القارئ العادي لسهولتها وتشويقها، وليس بالسهولة من عيب يجرح الذوق السليم، ولا بالتشويق من انحطاط يؤذي الفهم الرفيع وهي بعد ذلك تحوي قيما إنسانية كالشعر الرفيع يتذوق كل قارئ منها على قدر استعداده. وحسب القصة فخرا أنها يسرت الممتنع من عزيز الفن للإفهام جميعها، وأنها جذبت لسماء الجمال قوما لم يستطع الشعر على قدمه ورسوخ قدمه رفعهم إليها، فهل يكره العقاد ذلك أو إنه يحب كأجداده كهنة طيبة أن يبقى فنه سرا مغلقا إلا على أمثاله من العباقرة!!

ولعله توجد أسباب أخرى تفسر لنا انتشار القصة هذا الانتشار الذي جعل لها السيادة المطلقة على جميع الفنون الجميلة، ولعل أهم هذه الأسباب ما يعرف بروح العصر. لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتما لفن جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث

<<  <  ج:
ص:  >  >>