المنكر. وهم في ذلك يصدرون عن قوة إيمانهم وشدة غيرتهم على الدين. ومن هنا كانت خطبهم تأتي في أغلب الأحيان قوية حارة عنيفة صادرة عن القلب وتجد طريقها إلى قلوب السامعين في غير مشقة ولا عسر. ويخص ما كفرسون بالذكر شيخا أعمى يدعى الحاج حسين له مقدرة خطابية فائقة وقدرة عظيمة على اجتذاب الناس إليه. ويذكر ماكفرسون إنه شاهده مرة في مولد السلطان الحنفي يخطب الناس والمطر ينصب من فوقهم أنصبابا، والشيخ مع ذلك ماض في خطابته لا يتريث ولا يتوقف، والناس منصتون إليه لا يفكرون في الانفضاض من حوله.
ومن هذه الظاهرات أيضاً إقبال الناس على اقتناء الأحجية والطلاسم والرقي ابتغاء التبرك ودفع الشر والأذى. والدراويش هم الذين يقومون بكتابة هذه الأحجية لمن يطلبها من أفراد الناس. ويشهد ماكفرسون بأن الدراويش يقومون بذلك العمل رغبة منهم في فعل الخير فحسب؛ فهم لا يتخذون من غفلة الناس وسذاجتهم وسيلة لجمع المال، إذ أن كثيرين منهم يرفضون أن يأخذوا أجرا على ما يكتبون، والبعض الآخر لا يتناولون إلا أجرا قليلا تافها؛ ومنهم من يقنع بكتابة عدد معين من الأحجية لا يتعداه بأي حال ومهما اشتد عليه الإقبال.
ولكن كل هذه الظاهرات، على جلال معناها الديني - ليست هي الظاهرة المميزة للموالد؛ إنما الظاهرة الأساسية التي تمتاز بها الموالد هي سلسلة الحفلات الدينية التي يقوم بها كل ليلة من ليالي المولد جماعة الصوفية والدراويش. وهذه الحفلات يشرف عليها أحد مشايخ الطرق؛ ويكون في الغالب من نسل الولي نفسه. وقد يكون أحد تلاميذه الروحيين؛ فإن تعذر ذلك عهدت الحكومة بهذه المهمة إلى أحد كبار العلماء.
ونظام الدراويش نظام قديم من نظم الصوفية كان موجودا في أيام أبي بكر صهر الرسول (ص)؛ فهو بعيد كل البعد عما يلحقه الناس إليه من ضروب الشعوذة وفنون الدجل. ونظام الدراويش نظام متماسك له تعاليم متوارثة؛ لأن الدرويش لا يصبح درويشا حتى يمر بمراحل معينة؛ فهو يكون في الأصل طالب ثم يرتقي إلى درجة أعلى فيصبح مريدا يتلقى العلم الروحي على يد مرشد يلقنه الأوراد والأذكار حتى يحصلها جميعا فيسلمه (سندا بسلسلة) والسند عند الصوفية بمثابة شهادة تشهد بأن السلسلة (وهي رمز التسلسل الروحي الذي يربطالدراويش بمؤسس الطريقة ثم بالنبي عليه الصلاة والسلام) وحدة لا تنقطع -