للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واجد؟ لا أحسبك شاكا في صلابتها، فهذا ما تحسه يدك، كما يحسه كل إنسان آخر، ولكن هب أن الله قد أمدك بقوة تساوي ألف مثل من قوتك، فهل ترى صلابة المائدة تطل بين إصبعيك كما هي لا يطرأ عليها التغيير والتبديل؟ كلا! فكلما ازدادت قوة الضغط، قلت نسبة الإحساس بالصلابة، فهي أصلب في ملمس الطفل منها في ملمس الرجل، وهي أصلب في ملمس الرجل منها في مخلب الأسد! فهل ترى من حق الإنسان أن يكون حكما يقضي لهذه بالصلابة ولتلك بالرخاوة، وهو لا يعبر إلا عن شعوره الخاص؟. . . اقرع المائدة بإصبعك تسمع لها صوتا تعهده للخشب، فتظن أن للخشب صوتا يلازمه في كل ظروفه، وأنه لازمة من لوازمه، ولكنك ترفض هذا حين تعلم أن له رنينا آخر إذا نقرته بمفتاح مثلا، وثالثاً إذا ضربته بممحاة وهلم جرا. . .

إذن ليس لون المائدة أصفر على وجه اليقين، وليس السطح مصقولا على وجه اليقين، وليس الشكل مستطيلا على وجه اليقين وليس الخشب صلباً على وجه اليقين، وليس له صوت بعينه. . . وإذن فما نقلته إليك عيناك مشكوك في أمره، وما نقلته إليك أذناك مطعون في صحته، وما نقلته إليك أصابعك موضع للأخذ والرد، فماذا بقي لك من مائدتك التي عهدتها وما شككت يوما في يقينها؟ أفلا ترى الآن أن صورة المائدة في ذهنك قد تنقص عن الواقع، وقد تزيد على الواقع، وقد لا يكون لها واقع على الإطلاق؟!

أخشى أن ينتقل بنا الحديث من المائدة إلى مشكلات فلسفية عميقة، فهي توشك أن تفتح أمامنا أبواب بحث جديد، جدير بالتفكير. هل هناك مادة في الوجود كما يبدو أم هي بدعة أنشأها الفكر البشري إنشاء وخلقها من العدم خلقا؟!. . . هل تعدل مظاهر الأشياء على حقائقها وتنطبق عليها انطباق المثال على المثال أم تختلف عنها اختلافا بعيداً أو قريباً؟!. . .

ثم وضع صاحبي كفه القوية فوق كتفي، وقال في عطف ونصح: فكر في كل شيء، وستشك في كل شيء!!

زكي نجيب محمود

<<  <  ج:
ص:  >  >>