نهاية الإغراق في التفكير أن وجدوا أمامهم منفذين عقباهما الفناء المحتوم، فإما أن يعودوا إلى منازلهم الأولى التي أجلاهم عنها أعداؤهم فيكروا عليهم ويقاتلوهم ليخرجوهم منها كما أخرجوهم، ولكنهم رأوا أنهم لا قبل لهم بأعدائهم، فلا جدوى من العودة، وأما أن يخرجوا من الغابة إلى مكان آخر، ولكنهم رأوها متشابكة حصينة لا سبيل إلى النفاذ منها، فلا جدوى من محاولة الخروج
لم يجدوا بدأ من البقاء حيث هم، فأقاموا في شر حال، وكانوا يتهاوون تحت الآلام كما تتهاوى الأصنام في جمود أخرس كئيب، وكانوا إذا جن الليل أوقدوا النيران لتدخل إلى قلوبهم شيئاً من الأنس والسكينة، فلا تزيدهم إلا وحشة واكتئاباً، فتنقل عليهم الذكريات القديمة يوم كانوا ينعمون بالطلاقة والعيش الرغيد في جنبات السهول الفسيحة المترامية الآفاق، وفي ظلمات الليل كانت الأعاصير تعصف بأصواتها الرهيبة المنكرة، فتملأ جوانحهم هولا ورعباً.
أنهم لم يفروا أمام أعدائهم لنقص في شجاعتهم ولا لجهل منهم بأساليب القتال، بل أنهم آثروا الانسحاب حتى لا يستأصلهم الأعداء استئصالا، فيفنى بفنائهم تراث أسلافهم لو أنهم استمروا على الحرب. لقد سحقتهم النكبات سحقاً، غير أنهم لم يستطيعوا أن يسلوا ما نعموا به من رغد وحرية، فأرقتهم الهموم الثقال، وكانوا يقطعون الليالي بطيئة وهم ساهرون يفكرون فيما آل إليه حالهم من تعاسة وعذاب، وكانت الغابات من حولهم تتجاوب بالعزيف والعويل، وأشباحهم تتراقص حول النيران، وتتصاعد مع الأدخنة الملتفة كأنها أرواح شريرة، فتنخب في عزائمهم وتوهن من شجاعتهم، فتنطلق ألسنتهم بالسب والتجديف دون حساب. وفي نوبة من النوبات التي يطيق فيها اليأس على القلوب فيأخذ بمجامعها تشاور أفراد القبيلة، ثم قرروا أن يرجعوا إلى أعدائهم الذين أجلوهم عن منازلهم، ليستسلموا إليهم متنازلين عن حظهم من الحرية والكرامة، مفضلين الموت بأيدي أولئك الأعداء القساة عن حياة الأسر في الغابة.
وإذ ذاك برز من بين الصفوف شاب باسل وسيم كان القدر قد هيأه لهذه الساعة الحرجة كي ينقذ القبيلة من مصيرها التعس! كان اسم ذلك الشاب (دنكان)، وكانت تلوح على وجهه علائم البسالة والعزة والصرامة! نهد ذلك الشاب واقفاً أمامهم وخطب فيهم قائلا.