عبر لوناردو مراحل المعرفة البشرية وقد وسعها عقله الكبير المتقد شغفاً بالحياة وكلفا بأسرارها، ووقف عند تخوم المجهول يحدق في ظلامه وخوافيه ويرسل عليه من نور عقله والهام قلبه محاولا ارتياد بعض أراضيه البكر التي لم يحلق فوقها فكر أو يشرئب نحوها فؤاد. . . وكان تلميذ الحياة، الحياة كلها: خافيها وظاهرها، نظر إلى المعرفة البشرية في شتى فروعها وصورها نظرته إلى بعض من كل، لا يجوز الوقوف عنده والاكتفاء به، فكار مصوراً وموسيقياً وعالماً ومهندساً وشاعراً وفيلسوفاً وفي كل حالة كان رائداً مستكشفاً. ودأب الفنان أو المفكر العبقري أن يجعل من عقله وقلبه (حقلا للتجارب). إن الكون العظيم أمامه فلم يعمد إلى معرفته عن طريق أفكار الناس وعواطفهم مهما عظم شأنهم؛ إن به حاجة للحياة فلم لا يعيش ويجرب ويتأمل ويدرك الحقائق عن طريق احساساته ومشاعره وفكره؟ وهكذا كان لوناردو. . .
ولقد كان يؤمن كما آمن سيبنوزا بعده أن الحقيقة والكمال شيء واحد. وقال مرة (إن العبقرية الإنسانية لن تستطيع أن تستنبط شيئاً أكثر بساطة وأكثر وفاء بالغرض من الطبيعة)
وأحرى بمن ينظر إلى الحياة هذه النظرة، أن ينظر إلى الإنسان نفسه نظرة عميقة فاحصة، وجدير بمن يتأمل ذاته ويدرك ما تنطوي عليه النفس من أسرار وما يحتويه القلب من آماد لا يرتادها إلا العباقرة الأفذاذ، إلا يقنع عندما يعمد إلى رسم صورة إنسان بتسجيل الملامح والسمات وما قد يرتسم على صفحة الوجه من انفعالات سطحية عابرة. . . إن الإنسان يولد في الكون الرحب الفسيح وفي فؤاده كون آخر قد يكون أرحب آمادا وأبعد أغواراً من الكون المنظور، ولكنه يعيش في الظلام صادفا عن الكون الذي حوله والكون الذي في نفسه، سادرا في التفاهات معنياً بنوافل الأمور، ولكن هو الذي يستطيع أن يسبر الأغوار لم لا ينتشل من الأعماق بعض المعاني والأسرار التي تحفل بها النفس وتبقى دائماً كالنبع المطمور الذي تمر به الأجيال غير عابئة ولا ترسل له من ينقب عنه ويرفع الأستار. ولقد قال (إن فن التصوير نوع من الإبداع أتخذه وسيلة لتطبيق الأفكار والتأملات الفلسفية على خاصيات الأشكال طبيعية أو بشرية، فرسم صورة لم يكن لديه إلا رحلة استكشاف في