للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قضت (مدام دي برسي) أيامها الأول في تعرف محيطها الجديد. كانت سكناها في حجرة ذات جدر مكسوة بستائر صفراء مزركشة. . . وتطل هذه الحجرة على مناظر رائعة. . . فإلى اليمين السهل الفسيح وقد تناثرت فيه الصخور والنواتئ. . . والشجيرات ذات العطر والبهاء، والى اليسار يبصر المرء دغلا من الأشجار (الصنوبرية) السامقة تصفر بين جذوعها الريح فكأنها عزيف الجن والأرض العراء. . .

أرسلت (مدام دي برسي) طرفاً شارداً إلى أمتعتها المبعثرة والى تلك الحجرة المنسقة. . . فراحت تفكر جاهدة في تدبير غرفتها على نسق يلذ لها أن تراه. . .

إن الطبيعة لتقدم إلى أولئك اللائى يجتزن - مثل (مدام دي برسي) الأزمات الزوجية أجل المنافع. . . فالهدوء والسكينة والطمأنينة تعيد إلى نفوسهن شيئاً من المحبة والشوق إلى أزواجهن بعد انفصالهن، وتسكن في قلوبهن ذلك الخاطر الحزين الذي طالما يطوف بهن. . .

جلست (مدام دي برسي) تطوف الخواطر بخيالها. . . وتعد الذكريات إلى نفسها. . . فراحت تذكر أيام الطفولة البريئة الطاهرة ولعبها العديدة، ثم عندما بدأت عيناها تنظر إلى الحياة. . . وأول ثوب طويل لها. . . وأول رقصة رقصتها. . . ثم عندما كانت عذراء قبل زواجها؛ وأخيراً تلك الحياة الزوجية. . . كانت حياتها تنساب في غير تعثر، فما كانت تحفل بالقصص والفجاءات، ولا الحزن والمرح. . . وإنما كانت تسير سيراً عادياً تحدده عناية الله.

ومذ تسع سنوات كانت تأوي إلى مضجعها والأمل يداعب نفسها للغد القريب. . . وغابت التسع سنوات سراعاً، وهاهي ذي تعاني المرارة والألم. . . كانت تبغض زوجها وكذلك هو. وكثيراً ما كانت تبدي هذا البغض في أعمالها. . . أما هو فكان يبدي استياءه عند سيرها. . . أو ينفر من حديثها. . . بل يتبرم به. . . كانت أخلاقهما متباينة متنافرة. . .

ما كان زوجها بالرجل المرح الذي تصبو إليه النساء. . . بل كان جامداً عزوفاً عن المجتمع. . . ولكن فيه فطنة وحدة ذكاء مع سمو في الخلق وجلال في الخلال. . . ذو قلب مخلص حنون هادئ. . . بيد أنها تأبى أن تعاشره لاعتزاله المجتمع ونفوره منه، بينما كان في ريعان الحياة. . . وكانت تحس أن السعادة ستواتيها رويداً في عزلتها هذه. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>