عروتك الوثقى. . . ولكن من دمائنا بعض ألوانك، يا علمي، ففديناك. . . ومن بريق أعيننا لمعانك فحفظناك. . . وعلى عراك هذه الوثقى تآلفت قلوبنا والتقت أفئدتنا. . . فكنت خفقتها التي لا تني، ونهضتها التي لا تفتر، وعزمتها التي لا تكل!
- ٣ -
وحين وقفت هذه الجموع المؤلفة، يا علمي، كنا نحن. . . هؤلاء الشباب المتفتحين على عبوس الأيام، والمتقلبين في كالحات الليالي. . . نرمق ساريتك القائمة كالساعد المفتول. . . أنها وحدها هي التي كانت قيد نواظرنا فلم نتحول عنها. . . لم تأسرنا روعة المكان، ولم تأخذنا ضخامة البنيان، ولم تلهنا الآلاف المتدفقة، فلقد استحال كل شيء في نفوسنا بسمة تحييك، وخفقة تناجيك، وذكريات تواكبك. . . وركزت أبصارنا في شرفتك العريضة في نظرات من الرجاء العريض، والرغبات المستوفزة، والأمل الوثاب. . . ولم نعد نحن. . . نحن الذين تعاورتهم السنون بالجدب، وتعاهدتهم الحياة بالمصاعب، وإنما رحبت بنا مطارح الأحلام، وسمت بنا واسعات الأماني، وبدلنا دنيانا بدنيا أخرى. . . فشهدنا في نشوة لذة الأطلال الخرائب جنة ممرعة، والأسى الغالب فرحة محققة، والأحزان المقيمة بهجة مونقة. . . لقد تفتح لنا المستقبل عن وطن مهاب، تملك، أنت وحدك يا علمي، أرفع ذراه، وتتوسد أعلى رباه، وتقف في شم صخوره وشوامخه، وتمر بك نسماته تضمخها بالمجد وتعطرها بالإباء، وتبعث بها إلى هؤلاء الذين يفتدونك طاهرة لم تلوثها خفقات غاصب ولا نفثات دخيل!
- ٤ -
وحين دخلنا، يا علمي، باب الثكنة الكبرى، كانت محاجرنا تفيض بالدموع، ومن خلال ألقها الصافي كانت تنسحب الذكريات الحلوة المريرة: أولئك الذين استشهدوا على حفافي الوادي في ميسلون، وفي ثرى الغوطة في دمشق، وأرباض الجبل في أرض بني معروف، ومعاقل الشمال في حلب. . . وهؤلاء الذين ذهب بهم الغدر في الطرقات، واستبد بهم اللؤم في الشوارع، وانتزعهم السلاح المعربد من فرشهم. . . وجماعات وأفراد كانت السجون قبورهم، والكهوف لحودهم، والمنافي آخر عهدهم بالحياة. . . وأمهات سبق إليهن الثكل،