وأطفال عدا عليهم اليتم، وأسر باكرها الخراب، وبيوت سطا عليها العذاب. . . أولئك جميعاً كانوا كأنما تتمثل لنا مصارعهم في سبيلك، يا علمي، فلا يبكينا الأسى، ولا تنال منا الأحزان، وأنا يبكينا أن تلفهم الأكفان الحمر قبل أن يشهدوا سناك الزاهي، وجبهتك الناصعة، ورفرفتك التي تحدث حديث المجد، وتقص سيرة الكرامة، وتروي نبأ الأبطال والبطولات!
- ٥ -
وفي الساحة الكبرى، وقفنا نشهد - أيها الخفاق - ظفر الحق، وانتصار العقيدة. . . لطالما وقف في هذه الساحة طغاة يرطنون ويعجمون، ويصيحون ويصرخون. . . لطالما جلدوا الأبرياء، وأهانوا الأحرار، وثكلوا بالمستضعفين. . . لا النبل يهزهم، فقد ذاب في صدأ نفوسهم جوهر النبل. . . ولا الشرف يردعهم، فقد ذهبت يد الظلم بحلية الشرف. . . ولا المشاعر الإنسانية تختلج في أفئدتهم، فلم يبق فيهم أفئدة تختلج فيها مشاعر، وإنما هي مغاور تنفث السم، وتتلظى بالكيد، وتتوسل بالانتقام. . .
واليوم، اليوم يا علمي، تشهد الساحة الكبرى خلقاً آخر وحفلا جديداً. . . أنها لا تحس وطء الأقدام، ولا ثقل النفوس، ولا حلكة الظلم. . . أنها لا تجد زمجرة الانتقام ولا استطالة البغي، وليس عليها الساعة أوداج تنتفخ بالغيظ، وعروق تتغزر بالحقد. . . أنها تذكر ماضيها، وتدركانها تعود للشعب الخير، والجماعة النبيلة. . . أن رمالها تتراقص، وأنها لتتناغى فرحة طروباً كأنما تغني معها الريح أروع الأناشيد: أنشودة الأرض حين تظفر بأبنائها الطيبين. . .!
- ٦ -
. . . لن أنسى، يا علمي، هذه اللحظات الخاطفة، حين امتد الزمان، فغطى دمشق: ربيبته التي علمته الخلود، بالصمت الملذ الناعم، ونشر عليها رداء من السكون الهادئ العميق. . . ثم بعث فيها صوتاً واحداً، فيه الحياة عريضة كريمة، وفيه الأمل ريان مخضلا، وفيه الفرحة قوية عميقة. . . وأثار ذراها خفقة عنيفة نشيطة، خفقت معها قلوب، وعاشت معها نفوس، وازدهرت بها أماني، ما كان أقربها إلى الذبول. . . فإما الصوت فصوت البوق