الاستدراك الذي أخذه علينا الأديب الفاضل علي جلال الدين شاهين صحيح ومقبول؛ ولكن منشأ اللبس يعود إلى تصحيف وقع في كلمتنا ولم نتكلف تصحيحه. والقصة التي سجلها صاحب نشوار المحاضرة، عن قراد شارع الخلد ببغداد، إنما تنسب إلى (ابن عياش) لا ابن عباس. وإلا فأين يقع زمن هذا الأخير أو مكانه، من بغداد وشارع الخلد على عهد العباسيين؟
وأين عياش كان من رجال الدولتين: ولد في أيام سليمان بن عبد الملك (عام ٩٧ هجرية) وتوفي قبل وفاة الرشيد بشهر (عام ١٩٣هـ). وهو المحدث الثقة أبو بكر بن عياش الكوفي. اختلف في اسمه، وأشهر ما قيل في ذلك (شعبة) ثم (مطرف) وكان من أصحاب عاصم والكلبي، ومن رواة شعر الفرزدق وذي الرمة، روي عنهما شعرهما سماعاً
وامتداد الحياة بابن عياش إلى آخر عهد الرشيد لا يوجد شكا في أنه شهد بعينيه ما كان يجري على الوزراء في ذلك العهد من نكبات الزمان، مع الإقرار بأن هذه الحوادث كانت لا تزال آخذة بسبيل التزيد والانتشار، حتى لم تبلغ ذروتها، وتستكمل صورتها البشعة إلا فيما تلا ذلك من عصور
فقصة القراد البغدادي غير مستعبدة على هذا الوجه، ولا سيما إذا ذكرنا أن ابن عياش كان من ثقاة المحدثين، الذين لا يفترون ولا يفترون عليهم، وقد وثقه أحمد بن حنبل. كما كان من أهل الوقار والهيبة حتى لقالوا: إن الاختلاف في اسمه يرجع إلى كف الناس عن سؤاله تهيباً له.
هذا، ودقة العبرة ولطف المغزى في القصة يجعلنا لا نستبعد نسبتها إلى ابن عياش، إذ كان الرجل من أهم الفكرة العميقة، الذين يتلمسون من صغائر الحوادث جلائل العبر. وكان لا يستنكف أن يستقصي أنه الأمور، ويتبع أضيق المسالك في سبيل الوصول إلى حقيقة صغيرة يضيفها إلى ما تستوعبه نفسه من مباهج العلم ومفاتن المعرفة. حدث أبو هاشم الدلال قال: رأيت أبا بكر بن عياش مهموماً، فقلت له: مالي أراك مهموماً؟ قال: سيف كسرى لا أدري إلى من صار!!