هؤلاء الخاصة الاجتماعيون (سلبيون) في أكثر الأذواق والآراء، ولم تبقى لهم قدرة قوية على الإيجاب والإنجاب.
فهم مثلا لا يعجبهم ما يعجب الدهماء والأوساط من الخفة والاندفاع، وهم لا يشاركون الجماهير في أذواق البدع وبهارج الحداثة، وهم لا ينطلقون في الضحك ولا في الحزن ولا في الغضب ولا في الهياج إلا بمقدار ما يسمح لهم أدب الصالون وشعائر النبل والوقار.
أما إنهم يرتفعون إلى الأفق الأعلى في التفكير والتقدير فليس ذلك عندهم بمضمون، وقد يضحون بالجمال الحي الرفيع أحياناً في سبيل الجمال الذي توحي به التقاليد.
وهذه كلها خصال ترشح (بول فاليري) عند هذه الطبقة للقبول والظهور، ويزيده قبولاً عندها أن تعلو في سماء الأدب الفرنسي نجوم باهرة لا تلتزم ذلك السمت الصحيح أو السمت المصنوع.
لم يقصد بول فاليري أن يكون على شرط هذه الطبقة في الأساليب، ولا أن يكتب وفاقاً لمزاجها الذي تروضه على السمت أو تصطنع فيه الوقار. ولكنه لو قصد هذا لما كان أقرب إلى مزاج تلك الطبقة مما كان، لأنه طبع على الرصانة وجاءه التعليم برفد منها يتمم ما جادت به الطبيعة عليه. فقد تعلم الرياضة ونشأ على نظام رجال البحر وقرأ الحكمة وشغف بأسلوب الأقدمين، فجنحت به السليقة والنشأة إلى ذلك أو أباه، واستفاد عند غير هذه الطبقة كرامة ومحبة لا كلفة فيها، لأنه لم يكن يخاصم أحداً على سمعة أو شهرة، ولم يكن يبالي الخصومة إذا عرضت له معتدية عليه!
إلا أنه كان يشعر بصفاته هذه ولا ينساها حين يقيم الموازين للشعر المأثور والأدب النفيس، فلم يكن يغفل عن شرط (الكبح) والاحتجاز في تعريفاته الفنية، ولم يكن يأبى الغض من مزية التدفق والإفاضة، لأنها تلتبس أحياناً بالتفيهق والثرثرة في غير جدوى فإذا عرف الشعر قال:(إنه ينبغي أن يكون عيداً للذهن، ولا ينبغي أن يكون شيئاً غير ذلك).
ولكنه يعود فيقول:(عيد أي فرح. ولكنه رصين، ولكنه مرتب، ولكنة ذو مغزى. أو هو صورة لغير هذه المطروقات الشائعة، أو صورة للحالات والمساعي التي تقبل الانتظام والاتزان. . .).