ولا يستثنى من ذلك الشعر الغنائي الذي هو أدنى أبواب الشعر إلى الطلاقة والجموح، فهو عنده (هتفة)، ولكنها متطور أو (مشغولة) بصناعة الفنان
ويقول في التفرقة بين الملكات الكامنة والملكات المكشوفة:(في طبع كل منا حماقة الخطأ بين المفارقة والاكتشاف، وبين الصورة المجازية والبرهان، وبين سيل دافق من العبارات وينبوع يفيض بالحقائق الكبرى، وبين ما نحسه نحن وما ينطق به لسان الغيب. . .).
وقد كان مزاجه من طبيعة العزلة والانطواء فيه، فكان لانطوائه على نفسه ينتزع من أحوالها القواعد والأحكام، ويعطيك الشواهد على سرائره الشخصية من معظم ما كتب بعد الروية والتفكير؛ فلا أعرف في المحدثين كاتباً تظهر أسبابه الشخصية في أسبابه الفكرية كما تظهر في هذا الكاتب على التفكير.
رجعت إلى بعض آثاره التي عندي بعد السماع بنعيه فقرأت منها مقالة القيم عن الإنسان الأوربي وهو من تحفة المعدودة التي يقل فيها التعقيد والغموض، وقد بدأه بكلمة عن (الإنسان) عامة قال فيها: إنه هو المخلوق الذي ينفرد بين سائر المخلوقات، ويعلو على سائر المخلوقات بالأحلام، وإنه أبداً مصروف عما هو كائن بما لم يكن بعد، أو بما يرجو أن يكون، وإن الخلائق الأخرى تطيع التغيير الذي يطرأ عليها من خارجها، وهو وحده يطوع تلك العوامل المتغيرة بما توحيه إليه بواطنه وخفاياه.
ثم استطرد من هذه المقدمة إلى حصر الإنسان الذي ينشئ الأحلام في الزمن الحديث بين سكان قارة واحدة هي القارة الاوربية، والى حصر المشخصات التي خلقت قوام ذلك الإنسان في ثلاثة مراجع، وهي أو نظم الدولة الرومانية، والمسيحية التي ورثت كل شيء من رومة لا من بيت المقدس، ونموذج العلم النظري الذي يتمثل في الهندسة الإغريقية. . .).
ولا يعنينا هنا نناقش هذه الفلسفة من جانب النقد أو جانب الوقائع التاريخية، وإنما يعنينا أن نعقد الصلة بينها وبين مزاج الانطواء والعزلة (والتفكير الذاتي) الذي انطبع عليه بول فاليري.
فهناك بول فاليري الذي يتغنى بالأوربية كما تتغنى بها جميع أقوام القارة التي ضاعت عليها فرصة التغني بمجدها القومي منذ زمن بعيد أو قريب. فهم يذكرون دائماً انهم