تقفز في الفضاء وترفع أصواتها بما تملكه من قبيح الغناء.
وأحس (أبو الغصن) صوت جسم يسقط في الماء، وسمع استغاثة خافتة ضعيفة تنبعث في أثر الصوت طالبة النجدة والغوث.
فخف (دجين) إلى النهر، واندفع إلى مكان الغريق حتى إذا داناه، أسرع أليه، فألقى بنفسه إلى الماء في غير تردد ولا وجل، وما زال يسبح جاهداً حتى عثرت يداه بطرف ثوب فأمسك به وجذبه اليه، وما زال به حتى أنقذ صاحبه من الغرق وحمله إلى الشاطئ.
وما كاد يتأمل وجه ذلك التاعس المشرف على الغرق، بعد أن كتب الله سلامته على يديه، حتى أبصر شيخاً زري الهيئة مغمى عليه. وما لبث الشيخ أن أفاق من غشيته فشخص إلى (دجين) بعينين صغيرتين يظللهما حاجبان كثيفان، ثم قال له بصوت متهدج يكاد يختنق من البكاء.
(شكراً لك يا أخي، على ما أسديته إلي من صنيع، لقد خاطرت بحياتك لتنقذ حياتي ولولا ذلك لكان الهلاك نصيبي.
على أنني لا أدري - على التحقيق - اجميلا صنعت معي أم قبيحاً؟ ولا أعلم اليقين من أمري: أخيراً صنعت بي أم شراً)
فقال (دجين): (أكنت تقصد عامداً إلى إغراق نفسك هذه الليلة؟)
فقال الشيخ:(أستغفر الله! ذلك ما لا يدور ببال عاقل كريم! لقد زلت قدمي وأنا أمشي على الجسر فهويت إلى النهر، وحملني التيار في ظلام الليل الحالك، فكنت لولاك من المغرقين)
فقال (دجين): فما بالك تندم على نجاتك، ولا تحمد الله على سلامتك؟)
فقال الشيخ في أسلوب حزين يفيض مرارة واكتئابا: الحمد لله على كل حال! فإن كل ما ينالنا من خير أو شر مقدر علينا لا حيلة لنا في دفعه، ولا سلطان لنا عليه قال (دجين)(فما يحزنك من الدنيا؟)
قال الشيخ: (مثل لنفسك شيخاً مثلي ماتت أسرته جميعاً: زوجه وأولاده وبناته واخوته وعشيرته، وأقاربه الأدنون والأبعدون، فاصبح في شيخوخته يعيش بلا أسرة، ولا يجد في العالم كله قلباً يهفو إليه أو يعطف عليه، ولا يظفر بمورد يعيش منه، وقد حمل من أعباء السنين سبعين. كيف يكون شعور مثل هذا الرجل الفاني إذا هيأت له المصادفة أن يغرق،