ثم كتبت له السلامة مرة أخرى؟ أتراه يسعد بذلك أم يشقى؟ وهل يبتهج باسترداد حياته؟ أم يأسف لخلاصه ونجاته؟ إن للفتى والشاب - من أمثالك - آمالا كباراً يسعيان إلى تحقيقها والظفر بها فإذا بلغا ما بلغت من السنين وذرف (أي: زاد) على السبعين فأي أمل يبقى لهما في الحياة، وأي مطلب يسعيان له ويتمنيانه؟
فقال (دجين) يناجي نفسه في صوت خافت: (ما بال هذا الشيخ يستنكر البقاء ويلعن الحياة!)
وكان سمع الشيخ مرهفاً، فلم تفلت منه تلك الهمسة، فقال لدجين قولة الواثق المتثبت مما يقول:
(كلا - يا صاحبي - لا تسيء ظنك بي فما أنا بمبغض للبقاء ولا كاره للحياة! كلا لا أستنكرها كما ظننت، ولا ألعنها كما توهمت! بل أنا أحتقر من يفعل ذلك أشد الاحتقار. وقد عشت طول حياتي مؤمناً بالله مستسلما لقضائه وقدره، مفوضاً أمري له. يقبض روحي متى اقتضت إرادته ذلك. ولم يمنعني ذلك عن السعي في مناكب الأرض في طلب الرزق. ولكنها تأوه محزون، وكلمة حمقاء سبقت إلى لساني فنطق بها في ساعة يأس، دون أن يتدبر عقلي مغزاها، أو يثبت فكري من معناها!
ثم أطرق الشيخ، وكأنه خجل مما فاه به لسانه من كلمات الخور والضعف فطأطأ رأسه برهة. ولكن (دجينا) قطع صمته عليه حين سأله:
(من الرجل؟) فقال: (أنا لعلع بن دعدع) وكنيتي (أبو شعشع). فخبرني أنت ما بالك منفرداً في مثل هذا الوقت وفي مثل هذه الصحراء الموحشة؟ وما بالك تؤثر العزلة والانفراد في ظلام الليل، كأنما تفر من أبناء جنسك! ولئن صحت فراستي فما أنت بسعيد في حياتك قط) فقال (دجين): (كلا يا صاحبي - فإن السعادة لم تفارق نفسي قط، وما أذكر أنني شعرت بالتعاسة يوما واحداً طول عمري، على كثرة ما أصابني من المحن والمصائب والآلام؛ فإن الحزن والسرور - فيما أرى - يتعاقبان على الإنسان كما يتعاقب عليه الليل والنهار.
ولو أردنا أن نستديم السرور أو الحزن لعجزنا عن ذلك كما يعجز من يحاول أن يستديم الليل أو النهار. ألا ترى كيف تتعاقب علينا الفصول الأربعة في أثناء السنة: فتمر بنا صيفاً يتلوه خريف، وشتاء يتلوه ربيع؟