فبقى به إلى وفاته، وأصيب في آخر أيامه بفالج وهو يتوضأ لصلاة الجمعة أبطل حركته، ثم تعافى قليلاً وصار يخرج في عجلته للتنزه بدون فرجية بل بعباءة بيضاء من الصوف، وأشير عليه بالإقامة بحلوان لجفافها، فانتقل إليها وأقام بها برهة لم يستفد فيها شيئاً، فعاد لدارهبالقاهرة، ووافته منيته في الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء ١٣ رجب سنة ١٣١٥ عن اثنتين وسبعين سنة، بعد أن لازمه المرض نحو أربع سنوات، فأذن له على المآذن، وحزن الناس لموته حزناً شديداً، وتكاثرت الجموع على داره لتشييع جنازته، فقيل إن عدد المشيعين بلغ نحو أربعين ألفاً، والمصلين عليه نحو خمسة آلاف، ثم دفن بقرافة المجاورين في زاوية الأستاذ الحفني جنب أبيه وجده، ورثاه كثير من الشعراء جمعت مراثيهم في رسالة ألفها الشيخ عثمان الموصلي نزيل القاهرة، وسماها (المراثي الموصلية في العلماء المصرية)، لأنه أضاف إليها ما رثي بها الشيخ عبد الرحمن الرافعي مفتي الإسكندرية، والشيخ سليم القلعاوي شيخ مسجد القلعة، والشيخ محمد المغربي المتوفون هذه السنة أيضا.
وكان المترجم رحمه الله ربعة إلى الطول، مليح الوجه، منور الشيبة، معتدل القامة، ذا هيبة ووقار، مات عن ثروة طائلة وولدين هما الشيخ عبد الخالق المهدي والشيخ أمين، ماتا بعده الواحد تلو الآخر. ولم يؤلف من التأليف سوى مجموع فتاواه الذي سماه (الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية)، طبع بمصر سنة ١٣٠١ في ثمانية أجزاء كبار. وعاش في عز وتبجيل مدة حياته، وتولى الإفتاء مدة إبراهيم باشا وعباس باشا الأول وسعيد باشا وإسماعيل باشا وتوفيق باشا، أي أربعين سنة من سنة ١٢٦٤ إلى سنة ١٣٠٤ لم يعزل فيها، فلم تحفظ عليه بادرة خطأ أو مخالفة للشرع، وسبب ذلك انه تولاه وهو صغير والعيون شاخصة إليه، فكان لا يفتي فتوى إلا بعد المراجعة والتدقيق والتعب الكثير، فحصلت له بذلك ملكة فيه حتى صار معدوم النظير، لا يجاريه مجار في هذا المضمار وأضيف إلى ذلك ما كان عليه من التقوى والتشدد في أمر الدين، حتى كانت مواقفه أمام الولاة لا تزيده إلا رفعة في عيونهم لعلمهم أنه لا يريد إلا نصرة الحق، فأحبوه وأغدقوا عليه بالإنعام. ومن مواقفه غير ما ذكرناه أن الخديو إسماعيل باشا أراد مره ان يستولي على الأوقاف الأهلية ويعوض عنها أهلها ما يقوم بمعاشهم، فاستفتاه في ذلك فتوقف، وأفتاه بعضهم بالجواز، فتكدر منه وجمع بينه وبين مخالفيه، فناظرهم وفاز عليهم بعدما ألفوا