للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قلت: منذ كم فارقته؟ وهل مات أو سافر؟

قالت: أنت مجنون. . . ما فارقته قط ولا اتصلت به، هو معي إذا قمت، ومعي إذا نمت، أبكي لآلامه، ويبتسم هو للذيذ أحلامي، ويغضب فيخفق قلبي، ويأكل فتذهب جوعتي، ولكني لا أقدر أن أضمه إلي، ولا أستطيع أن ألمسه بشفتي!

ولو لم تكن أعمى لرأيته، إن رياه في عبق كل وردة، وصوته في كل أغنية، وصورته في صفحة البدر، وصفاء الينبوع، وخضرة الروض. . .

قلت: فمتى عرفته؟

قالت: مذ كان لي قلب، لقد همت به منذ وجدته في فكري، وقد ملأ علي نفسي، ولكني لا أدري أين يقيم، إني أراه في اليوم على ألف شكل، أرى في الرجل يمر بي عينيه، وأرى في آخر قامته، وربما استحال معنى من المعاني أحس به ولا أملك التعبير عنه. . .

قلت: فمن يدلك عليه؟

قالت: قلبي، ألا تفهم، أليس لك قلب؟ دلني على خفقانه، هو الجمال كله، فكل ما أرى من الجمال جماله. . .

ثم سكتت وأرخت أهداب عينيها، وغابت في ذهلة عميقة، فدنوت منها وضممتها إلي وأرحت ذينك النهدين على صدري، فاستجابت لي وتعلقت بي، ووضعت قلبها في شفتيها، ووضعت قلبي على شفتي، ثم ذقت منها قبلة، ما أظن أن إنساناً ذاق مثلها.

ولكنها انتفضت فجأة، وألقت برأسي على صخرة، فشجته وانطلقت لا تلوى على شيء، ثم لم أرها. . . وإن لم تغب خيالتها عن عيني. . .

ولما خرجنا من حضرة المريض قال لي مدير المستشفى:

لا تصدق كلمة مما قال، إنه هذيان مجنون لم يقع منه شيء!

قلت: إن آخر ما يهتم به الأديب، أن يقع الحادث أو لا يقع، أني أكتب قصة لا تاريخاً، وحسبي ما في قصته من جمال الوصف، وإن لم يكن لها مغزى، وإن كانت هذيان مجانين. . .

قال: شأنك. . . أنت أدرى به!

علي الطنطاوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>