والأمر الذي أريد أن أقرره، وأصحح به وهماً قد يرد على بعض الأذهان: هو أن العقيدة أكبر من الذهن، فلا يعيبها ألا تعتمد على الذهن وحده، وأن يكون لها منافذ إلى الضمير الإنساني غير هذا الذهن المحدود.
ولم يفتني أن أشير إلى هذا في ختام الفصل الذي عقدته في الكتاب تحت عنوان (المنطق الوجداني) فقد جاء فيه:
(لم يكن المنطق الذهني ليصل إلى شيء لو اتبعه القرآن؛ لا لأن ما فيه من حقائق لا يثبت لهذا المنطق؛ ولكن لأن العقيدة لا ينشئها هذا الجدل. إنها دائماً في أفق أعلى من هذه الآفاق. وما يعيب العقيدة أن يكون عمل الذهن فيها ضئيلا. فما الذهن إلا قوة صغيرة محدودة، تتعلق باليوميات، وما هو بسبب من اليوميات)
والذي أعتقده أن (المجهول) قسط أساسي من بناء كل عقيدة - ومن عقيدة الإسلام بالطبيعة - وحين تخلو العقيدة من روعة المجهول تستحيل رأياً، ولا تملأ جوانب النفس الإنسانية جميعاً.
وما دامت للمجهول حصته في العقيدة، فهناك مجال لغير الذهن بكل توكيد. والعقيدة - أية عقيدة - كلٌّ لا يتجزأ في داخل النفس، وإن تجزأت قضاياه وتعددت أمام الذهن. والشك في قضية منها معناه تخلخل جميع قضاياه
ويجهد الذهن ما يجهد في فلسفة العقيدة فيكون له هذا، ولكن بعد أن تكون العقيدة قد استقرت في الضمير، وسلكت إليه طرائق شتى ليس الذهن إلا واحداً منها، لم يكن ذا أثر حاسم ولا أثر ظاهر في عملية البناء.
وإنه لحسب الذهن أن تكون وظيفته هي تفسير هذه العقيدة بعد بنائها. تفسير ما يستطيع تفسيره منها، أما ما لم يستطع، فليقف على أبوابه هناك، فقد استلهمته النفس من منافذها الأخرى التي لا شك فيها
أما الاستدلال بالآيات التي استدل بها الأستاذ على أن الذهن هو محور الإثبات فيها، فلا أزال فيه عند رأيي الذي أبديته: وهو أن القرآن كان أعرف بالنفس الإنسانية من الأستاذ عبد المنعم فلم يسق الآيات سياقته لها، بل تركها في إجمالها الذي يخاطب قوى النفس جميعاً، ولا ينفرد بالذهن المحدود في نقاش جدلي قابل للردود الجدلية على طريقة الذهن