والذي طال الزمان به، ونشأوا عليه، فألفوه ونسوا أيام الحرية والمجد، وأن هذه البلاد بلادهم، وأنهم سلائل الأبطال الفاتحين، وحسبوا حكم هؤلاء (الواغلين. . .) ضربة لازب، وأن قضاء الله قد تم فيهم فلا ينفع معه سعي، وأن أيام السعادة قد انتهت فلا نؤمل لها رجعة، كيف لها وهي الفتاة المفردة بإيقاظ هذه النفوس التي امتد بها الهجوع حتى كاد يكون موتاً؟ كيف تفهم هذه الشخوص التي تجئ وتذهب كشخوص من ورق في ألعوبة (الكراكوز)، أن الحياة ليست بطناً يملأ، ولا شهوة تقضى، ولا مالاً ينال، ولكن الحياة المجد والتقى، وجلائل الأعمال، وأن يعرفوا للوطن حقه، وأن يعلموا، ويعلم كل عربي، وكل مسلم، أنه ما دام في فلسطين (واغل. . .) واحد من هؤلاء فحرام أن ينعم زوج بأهله، أو غني بماله، أو يغلق جفن على لذيذ المنام؟
وأنها لفي تفكيرها، وإذا بالباب يخفق، وإذا هو نعي اخوتها الأربعة. . .
صعقت ميسون لهذا النبأ، وعجز جسمها اللدن، وقلبها الرقيق عن حمله، فتضعضعت وانهارت، ولكن الإيمان والشباب تنبها في نفسها، ونهضا من تحت أنقاض الصبر، وخلال غبار المصيبة، يوقظان اللبؤة للانتقام. لقد كان وتراً واحداً فصار وترين، وكانت تطلب ثأر وطنها فلتطلب ثأر وطنها واخوتها، ووضعا البارود في أعصابها كما يوضع في المدافع، ثم أرسلاها في هذا الشعب الهاجع، تقرع أذنه بالرعود فيفيق أو ينام إلى الأبد. . .
وأحست ميسون أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزاً، وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل، والمدد الذي لا ينقطع، والأيد الذي يفل الجيوش، ويدك الحصون؛ وكذلك الإيمان إن نزل بقلب امرأة جعل منها بطلا يغلب، وما أعجب ما يصنع الإيمان!
وهمت ميسون أن ترتدي ثيابها ثم تطلب ميدان العمل، وتلفتت حولها لم تجد لها في الأرض قريباً، ولا ذا رحم، فقطعت أسبابها من الأرض ثم وصلتها بالسماء، فشعرت كأنها مؤيدة بقوة إلهية، اصطفتها من دون الناس، لتعلم، وهي الفتاة الغريضة الناعمة، لتعلم هؤلاء الرجال، الرجولة كيف تكون! ولم تعلم من أين تبدأ العمل، وجعلت تفكر، وهي تمر يدها على شعرها المنسدل حولها، المتموج كالحرير يفتن العباد لو أرادت به الفتنة ويأسر قلوب الفرسان، فسطعت لها الفكرة كما يسطع البرق خلال الظلام، إن هذا هو سلاحها،