لتشدن الرجال بهذا الشعر الناعم، ثم لتقودنهم من أعناقهم إلى المعمعة الحمراء، لتجعلن من ضعفه قوى تأكل القوى.
وذهبت فنادت جارات لها كن يقتدين بها، ويسمعن منها، فذكرت لهن مصابها في اخوتها، فحسبنها قد دعتهن ليواسينها ويخففن عنها، ولكنها مضت في حديثها مصعدة، حتى سمت إلى فلك التضحية ونسيان النفس ورفعتهن معها، حتى إذا استوثقت منهن، قالت: إننا لم نخلق رجالا نحمل السيوف، ونقود الخميس، ولكنا إذا جبن الرجال لم نعجز عن عمل، هذا شعري أثمن ما أملك أنزل عنه، أجعله قيداً لفرس تقاتل في سبيل الله، لعلي أحرك هؤلاء الأموات.
وأخذت المقص فجزت شعرها وصنع الفتيات صنعها، ثم جلسن يضفرنه ليوم الكريهة، لجماً وقيوداً لخيل المعركة العابسة، لا يضفرنه ليوم الزفاف، ولا لليلة العرس.
أرسلن هذه القيود واللجم إلى خطيب (الجامع الأموي) سبط ابن الجوزي العظيم، فحمله إلى الجامع يوم الجمعة وقعد في المقصورة وقد زلزلته الحماسة فما يستقر، ونفذ منه الصبر فما يدري أيان يصعد المنبر، فما آن الأوان حتى أسرع بالصعود وجلس وهذه اللجم وهذه القيود بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله، وينظر بعضهم في وجوه بعض، فلما انتهى الأذان قام فتكلم. . .
خطب خطبة حروفها من نار تلذع أكباد من يسمعها، وكلماتها سحر لم يدر هو مأتاه لأن قلبه كان يتلقاه من عالم مجهول، فيقذف به على لسانه، ولم يستطيع أحد أن يرويها لأنها خطاب من الروح إلى الروح قد ذابت كلمتها في معانيها، ثم استحالت معانيها إلى إيمان وتضحية وبذل، فكانت إحدى هذه المعجزات البلاغية التي يهدر بها كل عصر مرة، لسان محدث، أو يمشي بها قلم ملهم، كرامة من الكرامات، وواحدة من خوارق العادات، يجعل الله بها الكلمات أحياء عظيمة لها روح تجذب الأرواح، ويد تشد الأعصاب، وعيون تبصر. . . وإنما حفظوا منها جملاً، نقلوها إلى لسان الأرض، فجاءت كتمثال الحسناء، جميل ولكنه من الشمع. . وكان مما حفظوا:
(يا من أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم، ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم عن دينهم! يا من حكم أجدادكم بالحق أقطار الأرض، وحكموا هم