(د) كذلك حدثنا أن جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان حج بعد إسلامه، فبينا هو يطوف بالبيت يجر ثوبه - وطئ رجل من فزارة ثوبه، فلطمه جبلة فهشم أنفه، وكسر ثناياه، فأستعدى الفزاري عليه عمر بن الخطاب، فقال له عمر: إما أن يعفو عنك الفزاري، وأما أن يقتص منك. فقال جبلة: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال عمر: قد شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية والتقوى. قال جبلة: ما كنت أطن إلا أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية؛ قال عمر: دع عنك هذا. فلما رأى جبلة حرص عمر على القصاص، قال: أنظر في أمري الليلة؛ ورحل بليل بخيله ورواحله ولحق بالشام، ثم بالقسطنطينية فتنصر وبقي عند قيصر، ومما يعزى إليه قوله في ذلك سادما:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تَكَنَّفني فيها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ولا يخل بمبدأ المساواة تخلفها في بعض حالات قليلة محصورة لوجود مانع جبلي أو شرعي، ولحكم ومصالح تقتضي ذلك - على ما هو مبين في موضعه من كتب الفروع كعدم مساواة المرأة للرجل في استحقاق النفقة عليها، وعدم مساواته لها في حسانه الأولاد، وعدم مساواة المرأة للرجل في تعدد الأزواج وفي مقدار ما يورث.
بهذا المبدأ العظيم عزت نفوس المسلمين في صدر الإسلام، وسمت هممهم، وعظمت أخلاقهم، وبرزت فيهم قوة الشخصية والمواهب، ونجم فيهم رجال قادوا الأمة الإسلامية إلى أوج المجد والرفعة، وساسوا العالم كله بالقسط والمعدلة، والرفق والمرحمة، وتلك هي روح الإسلام التي بها دخل الناس في دين الله أفواجا، وكانوا له حماة وأنصار:(يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير).