أي كائناً محدوداً. ومن هنا كان يحلو لبرونو أن يدعو نفسه (فليوتيوس) أي (محب الإلهي)، إرادة أن يميز في وضوح بين تصوره لله وبين الإلحاد. بيد أن هذه الحيطة لم تجده نفعاً، ولم تفلح في تضليل قضاته.
والواقع أن إله برونو لا هو خالق العالم بل ولا هو محركه الأول؛ وإنما هو (نفس العالم). إنه ليس علة الأشياء المتعالية والموقتة؛ وإنما هو - على حد تعبير اسبينوزا - علتها الحالة أي الباطنة. إنه مبدؤها المادي والصوري معاً؛ إنه المبدأ الذي يحدثها وينظمها ويحكمها (من الداخل نحو الخارج). إنه بالإيجاز جوهرها السرمدي. إن الموجودين اللذين يميز بينهما فيلسوفنا بلفظي (الكون) و (العالم) ليسا في الحقيقة إلا شيئاً واحداً، يعتبر حينا من مقام (الواقعية)(بالمعني المدرسي) وحيناً من مقام (الاسمية).
فالكون الذي يحوي ويحدث جميع الأشياء ماله من بداية ولا نهاية؛ أما العالم - أي مجموع الموجودات التي يحولها ويحدثها - فله بداية ونهاية. ههنا - إذن - تحل فكرة الطبيعة الضروري محل فكرة الخالق والخلق الحر، وتعود الحرية والضرورة لفظين مترادفين ويرجع الوجود والقدرة والإرادة في الله فعلاً واحداً لا يتجزأ.
وإبداع العالم لا يكيف (الكون الإله) على أي نحو من الأنحاء، وهو الكيان الواحد الثابت السرمدي اللامتناهي، والممتع على القياس والمقارنة. فإنه إذ يفض نفسه يحدث مالا عداد له من الأجناس والأنواع والأفراد، وملا نهاية له من شتى القوانين والنسب (التي تقوم حياة الكون وعالم الظواهر) من غير أن يصير هو نفسه جنساً أو نوعاً أو فرداً، أو يخضع لأي قانون من القوانين، أو يدخل في أية نسبة من النسب. إنه وحدة مطلقة لا تقبل الانقسام، ولا شأن لها بالوحدة العددية. إنه في كل شيء وكل شيء فيه. وليس من موجود إلا ويحيا ويتحرك ويتقوم فيه. إنه حاضر في سنبلة القمح، وفي حبة الرمل، وفي الهباءة التي تسبح في شعاع الشمس، كما هو حاضر في (الكل) الذي لا حد له - لأنه لا يقبل الانقسام. وحضور (الواحد) اللانهائي في كل مكان، وحضوراً جوهرياً طبيعياً، يفسر - وفي الوقت نفسه يهدم - الاعتقاد الديني بوجوده الفائق الطبيعة في (الخبز المقدس)، هو الاعتقاد الذي يعتبره الدومنيكي السابق حجر الزاوية في المسيحية. وبسبب هذا المحضر الحقيقي للكائن اللانهائي في كل مكان، كان كل شيء في الطبيعة حياً؛ في سبيل إلى إعدام شيء؛ وما