الموت نفسه إلا تحول في الحياة من شكل إلى آخر. . . إن مزية الرواقيين تستقر في أنهم رأوا في العالم موجوداً حياً؛ ومزية الفيثاغوريين تستقر في أنهم أدركوا ما تتسم به النواميس الحاكمة للخلق السرمدي من الثبات والضرورة الرياضية.
وبرونو يسمى (اللانهائي) أو (الكون) أو (الله) بالمادة أحياناً. وليست المادة عنده (اللاوجود) الذي قالت به المثالية اليونانية وقال به المدرسيون. فإنها عنده غير ممتدة، أي (لا مادية) في ماهيتها، وليست تقبل وجودها من مبدأ إيجابي خارج عنها (الصورة)، وإنما هي بضد ذلك الصدر الحقيقي للصور كلها، إذ هي تنطوي على أصول هذه الصور جميعاً، وتبرزها بالتعاقب. فما كان أول الأمر بذرة يصير ساقاً، ثم سنبلة، ثم خبزاً، ثم عصارة، ثم دماً، ثم نطفة، ثم جنيناً، ثم إنساناً، ثم جثة، ثم يعود إلى الأرض أو الحجر أو ما إلى ذلك من المواد، ليمر بعد بالمراحل نفسها من جديد. وهكذا نجد ههنا شيئاً واحداً يتحول إلى كل شيء، ويبق مع ذلك واحداً في جوهره. ومن ثم تبدو المادة وحدها ثابتة سرمدية، وجديرة بأن تدعى مبدأ. وأنها - وهي المطلقة - تتضمن الصور والأبعاد جميعاً، وتطور من نفسها ما لا حد له من شيء الصور التي تستعلن فيها وتظهر. ونحن حين نقول إن شيئاً قد مات، إنما نعني أن شيئاً جديداً قد ولد؛ فإن انحلال مركب من المركبات معناه تكوين مركب جديد.
والنفس البشرية أعلى ما تتطور إليه الحياة الكونية، فهي تنبثق من جوهر الأشياء كلها، بفعل القوة نفسها التي تخرج السنبلة من حبة الحنطة. على أن لكل موجود في الكون جسما ونفساً، فجميع الموجودات (مونادات) حية يستعلن فيها (موناد المونادات) أو (الكون الإله) في صورة جزئية وهيئة خاصة. والجسمانية هي الأثر الناشئ عن قوة الموناد التوسعية، أو حركته نحو الخارج؛ وفي الفكر ترجع حركة الموناد على نفسها. إن هذه الحركة المزدوجة، من توسع وتمركز، تقوم حياة الموناد. وهو يدوم ما دامت هذه الحركة، ويموت حين تقف، ولكنه يختفي ليظهر وشيكا في صورة جديدة. وعلى هذا يمكن أن يوصف تطور الكائن الحي بأنه اتساع مركز حيوي، وتوصف الحياة بأنها ديمومة الكرة، والموت أنه تقلص الكرة وعودتها إلى المركز الحيوي الذي انبثقت منه.
إننا سنصيب هذه التصورات كلها، وخصوصاً (تطوريّة) برونو، في أنظمة (ليبنتس) و