للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النهر حتى إذا أدنتها خطاها الواهنة من مائه، ورأتها تلمع كالمرآة، أشفقت من الموت وهابته وارتدت عنه للمرة الخامسة بعد الألف. إنها لا تريد أن تموت، ولا تزال متعلقة بالحياة قد أقفرت من المجد والحب.

ولما دلفت إلى مخدعها في الدير سمعت ضجة، قالوا لها، إنه أمير المغيرة بن شعبة يستأذن عليك. الأمير؟ ما لها وللأمير؟ ما شانه بها؟ ما يبتغي لديها؟ أما تركت له ولقومه ملك أبيها فلم لا يترك لها ديرها؟ وفكرت. . . ثم أذنت له فدخل عليها فبسطت له مسحاً، وسألته: ما جاء بك؟ قال: جئت خاطباً؟

خاطباً؟ إنها كلمة لم تسمعها من عمر طويل، فلما طرقت سمعها هزت وتراً في قلبها كان قد صدئ، ونسيت ضيفها وقفزت إلى الماضي فغلبت عن حاضرها، وغرقت في ذهلة عميقة امتدت أبداً، والمغيرة يرقب جوابها ولكنه كان أكَيَس من أن يفسد عليها أحلامها، فانتظر صابراً. . .

تخيلت أنها قد عادت فجأة تلك الفتاة التي كانت فتنة القلب والنظر، وكانت مطمح الأنفس والفكر قد جمع الله لها المجد كله والجمال كله، فهي عروس الزمان بهاء وحسناً، وهي بنت النعمان أعز عربي عزاً، وأمجده مجداً، وإنها قد عادت أيام الحيرة، ورجع الفصح والشعانين، فخرجت إلى البيعة تتقرب فيها، فلما احتوتها البيعة، وأمنت الأنظار، وألقت عنها خمارها، وأخرجت هذه اللؤلؤة من صدفتها، وأبدت ذلك الجسم الذي كانت تتقطع على الوصول إليه قلوب الرجال، ولم تدر أن الزمان أراد أن يؤلف قصة حب تتلى بعد أربعة عشر قرناً، فجأة بعدي بن زبد الشاعر الجميل ليتخلص النظر إليها، ويقع في قلبه هواها، فلما رأته استنرت منه وسبت جواريها، وظنت أن القصة ختمت قبل أن تفتتح، لم تدر أنها قد سطرت منها الأسطر الأولى (لتكون سفر سعادتها العاجلة وشقائها الطويل) يدا (مارية) الجميلة الخبيثة. . .

لقد كانت مارية تحب عديا، ولا تجد إلى الوصول إليه سبيلاً. إلا أن تأتي بهند لتحلها مكان المحبوبة من قلبه، ترضي بذلك حبها ونفسها، وقد يفنى المحب في الحبيب، فيبنى مسرته على أساس من شقاء نفسه، ومشت بين عدي وهند تدير خيط الحب من حولهما، حتى غدا سبباً قوياً، وجامعة لا تنقطع. لقد صبرت حتى مضى حول كامل على يوم الشعانين ونسيته

<<  <  ج:
ص:  >  >>