بيد أن الأخير يكشف لي عن وجودي بلا واسطة؛ وبيقين لا ظل من الشك فيه. إنه يكشف لي عن نفسي كائناً يوجد، ويفعل، ويعرف، ويريد، ولكن هيهات أن يفعل ويعرف كل شيء. إنه - بعبارة أخرى - يكشف لي وجودي وحدوده معاً. ومن ثم أستنتج بالضرورة أن هناك كياناً يحدني، أو عالماً موضوعياً يختلف عنى؛ أو (لا أنا). وهكذا أبرهن بالمنهج البعدي على حقيقة فطرية، أو قبلية أو سابقة على كل تفكير: وهي أن وجود (اللا أنا) هو علة إدراكي الحسي.
أتدحض هذه الحجة مذهب الشك؟ ألحق أنها لا تبلغ من ذلك كثيراً، وإن فيلسوفنا ليعترف بهذا، ولا يدعى لنفسه النصر والغلبة. فإن قولك إن الحواس صادقة في إرادتنا الموضوعات الخارجية، لا يلزم عنه بالضرورة أنها ترينا هذه الموضوعات على ما هي عليه. إن التطابق الذي تفترضه (التوكيدية) بين نحو تصورنا الأشياء ونحو وجودها إنما هو - في رأى كمبانلا - نتيجة لتماثل الموجودات، وهذا بدوره نتيجة لحقيقة ممتنعة على البرهان: وهي أصل الموجودات الموحد. ثم إنه لا يسلم أن لدى النفس الإنسانية علماً مطلقاً بالأشياء. قد تكون معرفتنا صحيحة، لكنها لن تكون تامة أبداً. وهي إذا قيست بمعرفة الله تافهة أشبه بلا شيء. وقد كنا خُلَقاء أن نعرف الأشياء على ما هي عليه، لو كانت معرفتنا فعلاً محضاً: لو كان إدراكنا خلقاً. إنا لأجل أن نعرف الأشياء على ما هي عليه، أو بصورة مطلقة، يجب أن يكون (المطلق) من حيث هو، أي نكون (الخالق) نفسه. على أن معرفتنا وإن كانت مثلا أعلى لا يستطيع الإنسان تحقيقه - وهذا دليلٌ بين على أن هذه الدنيا ليست بداره الحق - فإن من واجب المفكر أن يشتغل بالبحث الميتافيزيقي.
والميتافيزيقا، أو الفلسفة الكلية، باعتبار موضوعها، هي علم مبادئ الوجود أو شروطه الأولى؛ وهي، باعتبار مصادرها وآلاتها ومناهجها، علم العقل، الذي يفوق العلم التجريبي يقيناً وسلطاناً.
والوجود أو الكينونة معناها الصدور من مبدأ والرجوع إليه. ترى ما هو هذا المبدأ؛ أو بالأحرى ما هي هذه المبادئ؟ فإن الوحدة المجردة شيء عقيم. وبعبارة أخرى: ما هي شروط وجود الموجود؟ الجواب: