وكانت السماء تغشيها السحب، فطوت القمر النجوم في حجب مغيبة دام السير طويلا في صمت وسكون. . . وأخيراً قال السلطان (الأسراب):
- ستفنى حياتي يوما بعد يوم، وسيخفت قلبي في خفقانه حيناً بعد حين. . . وستخمد رويداً هذه الجذور المستعرة في جسدي. . . جذوة الحياة. لقد كان الضوء الذي يشع في حياتي، والدفء الذي يبعث لي بالحرارة هي تلك الفتاة (القوزاقية). . . خبرني بني (توليق). . . خبرني إن كنت حقاً في حاجة إليها. . . خذ مائة من حريمي. . . خذهن جميعاً. . . بدلاً منها. . .)
صمت (توليق الجلي). . . فعاد السلطان المتيم يقول:
- لقد تقضت حياتي. . . ولن ألبث طويلاً فوق أديم هذه الأرض. . . فدعني أنعم بحب هذه الفتاة. . . إنها تعشقني. . . من ذا سيحبني بعد أن تنأى عني؟! يحبني. . . أنا يا من دبت في جسدي الشيخوخة. . . من؟ ليست واحدة منهم يا توليق. . .)
- ولكن (الجلي) لم ينبس ببنت شفة. (بالله. . . كيف يتردد لي نفس، وأنا أحسب أنك تعانقها. . . وأنها تقبلك؟. . . إذا كنا أمام المرأة يا توليق فلسنا والداً وولداً. . . ليت جروحي - وقد تناثرت في جسدي - نكأت فسال دمي حاراً دافقاً منها. . . فهذا خير وأفضل من عيشي حتى هذه الليلة. . .)
انتهى بهما المطاف عند باب الحريم، فوقفا - وقد طأطأ كل منهما رأسه إلى الأرض - وشاع الصمت بينهما، وشملهما الظلام. وفي السماء راحت بعض السحب تطارد بعضها والريح تميل الأشجار عن يمين وعن شمال. . . وكأنها تترنم لها. . .
قال (توليق) في صوت هادئ رزين (يا أبت. . . لقد أحببتها) فقال السلطان (أعلم هذا. . . كما أني أعلم أنها لا تحبك)
- إن قلبي لينفطر حينما أفكر فيها. . .
- إني لأشد منك حباً لها. . .
وعاد الصمت يحلق فوقهما ويرين عليهما. . . فقال (الجلي) في صوت فيه ألم، وفيه عزاء:
- لقد أدركت الآن صدق الحكمة القائلة (المرأة خلقت لمتاعب الرجل) إن كانت حسناء