للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حين أنكرا اصطناع الكتابة لدى عرب الشمال قبل العصر الإسلامي، وحين انتهيا إلى أن الشعر الجاهلي منتحل كله.

يرى بروكلمان أن بعض الشعر الجاهلي قد دون في الجاهلية، وأنه لا سبيل إذن إلى إنكار الشعر الجاهلي كله. ونحن لا نستطيع موافقته على هذا الرأي، أولا لما قدمناه من قصور الكتابة قبل الإسلام عن أن تدون بها الأشعار. وثانيا لأننا لا نعلم شيئا عن ذلك الشعر الذي دون في الجاهلية. ومهما يكن من شيء، فهو على حق حين يأخذ على مرجليوث وطه حسين إنكارهما اصطناع الكتابة قبل الإسلام؛ ولكنه يحيد عن الحق حين ينتهي إلى أن بعض الشعر الجاهلي صحيح، لأن اصطناع الكتابة ليس معناه تدوين الأشعار وحفظها من الخطأ.

على أن بروكلمان يعود فيقول إن تدوين الأشعار في الجاهلية لم يغلب على روايتها شفاها، وإنما كانت الرواية الشفهية هي الغالبة. وهو في هذا القول يقترب كثيرا من الرأي الذي نأخذ به، من أن الرواية الشفهية للأشعار كانت السائدة في الجاهلية. بل إننا نرى أن الرواية الشفهية ظلت سائدة حتى أخريات القرن الأول للهجرة، أي بعد كتابة القرآن بزمن طويل. ونحن نفسر هذا بأن للعادة سلطانها وغلبتها، وأن العرب ظلوا على روايتهم الشفهية للأشعار جرياً مع العادة ومسايرة لها. هذا إلى أن طبيعة اشعر العربي القديم، وهي طبيعة غنائية، من شأنها الترغيب في الإنشاد والرواية الشفهية، لا الترغيب في التدوين والنقل.

بدأ العرب يدونون شعرهم في أخريات القرن الأول للهجرة. ومعنى هذا ن الشعر الجاهلي لم يتئد إلينا إلا بالرواية الشفهية. فهل من الممكن أن يكون هذا الشعر قد تئدي إلينا هكذا سالما؟ وماذا يضمن لنا أنه ظل بعد تلك المدة الطويلة من الزمن على حاله التي صاغه فيها قائلوه؟ ليس من ريب في أن أبياتا كثيرة يقولها الشاعر في الافتخار بقبيلته وهجاء أعدائها، فيتناشدها قومه ويتناقلونها، قد بقيت ولم تحل صورتها. ليس من ريب في هذا، ولكن هناك قصائد طويلة كالمعلقات ما كانت لتبقى لو كان بقاؤها وقفاً على تناشدها وتناقلها. إنما هم الرواة الذين حفظوها لنا، ونقلوها إلينا، فقد كان لكل شاعر راويته الذي يصحبه، ويحفظ أشعاره، وينقلها إلى الناس. وكان كثير من الرواة شعراء، وكان كثير من الشعراء رواة. فامرؤ القيس راوية أبي دؤاد، وزهير راوية أوس بن حجر وطفيل الغنوي، والحطيئة

<<  <  ج:
ص:  >  >>