من القسوة أن تنتزع من بين شفتيه كأس نسج حولها وشي الأماني، وحاك مطارف الأحلام. . . أخذ بين يديها الناعمتين ثم جثا على ركبتيه ضارعاً ملتاعاً، وقد غض بدمعه المتسايل على خده الأسمر. وبكت كذلك روزا. ولكنها ما استطاعت أن تجيبه إلى ما طلب. . . لعلها كانت تحب الفتى يا سيدي، ولكن شيئاً أعظم من حب فتاة، وأعتى من غرام فتى!
(واستمهله روزا ليلة أخرى، كيما تقرر فيها ما تفعل. وقد أزمعت أن تأتي هنا إلى هذه الكنيسة فتبتهل إلى مريم أن تنير لها الطريق وتدعوها أن تهديها سبيل الرشاد. وقبل الفتى شفتيها الباردتين ثم ذهبت. . . لقد كان طفلا حين ظن بأنها تؤثر ذراعيه القويتين!
(إلى هنا جاءت الفتاة لتجثو طوال الليل فوق هذا الصخر الجافي تبكي وتبتهل، فقد كانت: تحب الفتى حقا، ولكن العذراء رمت إليها من فوق الشموع الأربع واحتوتها بعينيها الحزينتين المفكرتين. وسريعاً ما امتزجت روح الفتاة بروحها. . . وما إن انبلج نور الفجر حتى عبرت البحيرة إلى الحيطان البيضاء دون أن ترى حبيبها مرة أخرى.
(ولعل الفتى - عندما انتهى الأمر - قد أصابه مس أو جنون. إذ خرج معلناً كرهه لله وللعالم. وانطلق في ذاك الطريق الأبيض الصغير إلى حيث نحن الآن جالسان.
(وهنا استل هذا الخنجر الذي ترى ثم طعن قلب العذراء وهو يتمتم بقسم خافت مبهم. . . ولهذا لن أدعك تلمسه.
وأومأ بلاجدن برأسه بينا صمت العجوز هنيهة ثم عاد يقول: (واختفى جيوفانا عن الناس يومين، ثم عاد فظهر دون أن تمحى سيماء الجنون عن وجهه. . . وهناك على شعب الحدور قابلته جنازة بيضاء. حقا لقد كانت جنازة فتاته. فأهطع إليها ولكنهم أوقفوه. لم يؤنبه أحد على ما أجترم؛ ولكن تنازع الناس حيال ذلك عاطفتان قويتان: خوف ورحمة.
(وكانت روزا قد ماتت في الدير جاثية على ركبتيها في نفس اللحظة التي طعن فيها جيوفانى صدر مريم. وقد أخبروه بعد مدة معدودة أن وجهها - حين ألفوها لدى الهيكل - كان يشبه وجه مريم إلى حد بعيد. ولم يكن لموتها من سبب معروف واضح، وإنما هو سر غاب عن أذهان البشر ودق عن إفهام الناس. ولقد أخبرته الراهبات أنها كانت إذ ذاك تبتهل إلى الله أن يمنحها من لدنه قوة.
(وتوقف الراهب عن الكلام، فبقى الرجلان صامتين برهة طويلة يصعدان النظر معاً في