ليطمئن القراء فما هي كالأولى ولا هي منها في شيء، وأنا في هذه المرة مؤيد له وقد كنت في الأولى عليه، وهذه مناظرة هادئة باسمة، وقد كانت تلك معركة صاخبة مجلجلة كالحة الوجه عابسة، وأنا أعرف الآن الأستاذ قطب وكنت أتخيله تخيلا، والأستاذ خلاف أخي حقيقة، والأستاذ قطب رفيقي في دار العلوم سنة ١٩٢٨ على ذمة الأستاذ اللبابيدي الفلسطيني الذي نشر ذلك في الرسالة إبان المعركة الأولى (معركة الرافعي والعقاد)، فأنا لست إذن غريباً عن المتناظرين.
لخص الأستاذ قطب الخلاف بينه وبين الأستاذ خلاف، في كلمات هي أنه (هل من الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة، وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود)؟ وأجاب عليها بالنفي.
وأنا أجيب كذلك بالنفي، ولكني أمهد لذلك بتحديد معنى الذهن أو العقل (كما أفهمه أنا)، ومعنى العاطفة، وهذه طريقة علمائنا في الجدل، إذ ربما اختلف اثنان، وما اختلافهما في الحقيقة إلا على معاني الألفاظ، فكل يريد بها شيئاً، وليس بينهما لفظ جامع يرجعان إليه، ويستقران من بعد عليه.
وأعترف بأن هذا التحديد لا يمكن أن يكون تاماً، ولا نستطيع أن نضع لكل من العقل والعاطفة التعريف الجامع المانع، أو (الحد) الذي يريده أهل المنطق، لأن مدلول كل لفظ يدخل في مدلول الآخر، فهما كدائرتين متقاطعتين، ففي كل قسم متميز مختص بها، ولكن فيها قسما لا يدري أهو منها أم هو من الأخرى، ثم إنه لا يصدق التشبيه ولا يكمل إلا إذا تصورت في الدائرتين حركة دائمة كحركة المد والجزر، فهما لا تسكنان أبداً.
على أن الأمم كلها قديماً وحديثا قد فرقت بين العقل والقلب، وجعلت القلب (هذا العضو الذي لا يشتمل إلا على الدم) مقر العواطف ومكان الحب، وأقامت على ذلك ألسنتها ولغاتها، ونطق به شعراؤها فقالوا للمحبوب، أنت في قلبي، وقلبي عندك، وجرحت قلبي، وأحرقت قلبي، ومزقت قلبي، وأنت قلبي، يستوي في ذلك الألوان والآخرون، والعرب والعجم، ولقد فكرت في ذلك طويلا، فتراءى لي أن منشأه، وأن الإنسان الأول لما بدأ يصنع لغته، ويحرك بالكلمات لسانه، نظر فرأى أنه إذا طلع عل يه الحبيب أو أبصر الجميل، أو خاف أو ارتقب شيئاً، خفق قلبه واضطراب في صدره، وإذا فكر فأطال التفكير