من أبين الدلائل، وأقوى الحجج، وأسطع الآيات على أن الشريعة الإسلامية سمحة موطأة الأكتاف، خصبة، أقرت حرية الرأي والاجتهاد في التشريع، ما روعيت أصوله، وتحققت دعائمه وشروطه - اتساع باب العقوبات وتعدد وجوه التعزير فيها: فإن العقوبات إن كان مقدرة من الشارع على الجرائم المجترحة سميت حدوداً، وهي التي وردت في التشريع القرآني في حد الزنا والقذف والسرقة وقطع الطريق.
أما إذا كانت غير مقدرة فهي التي تسمى تعزيراً، فهو تأديب بعقوبة غير مقدرة من الشرع، ويجب بارتكاب معصية من المعاصي التي لا حد لها، كشهادة الزور، وإيذاء مسلم أو ذمي بقول أو فعل، ومنه سب المحصن بغير الزنا، والنظر إلى الأجنبية والخلوة بها، وسرقة ما لا قطع فيه.
وتقدير العقوبات على المعاصي والمحرمات. أو ترك الواجبات التي لم يرد في النصوص الشرعية عقوبة معينة لها - يرجع إلى اجتهاد الأئمة وأولي الأمر في كل زمان ومكان، وتختلف باختلاف أحوال الجرائم، وكبرها وصغرها، وبحسب حال المذنب نفسه، ولذلك كان التعزيز من أوسع الأبواب في الشريعة الإسلامية، واختلف المجتهدون فيه، وفي تحديد عقوباته اختلافاً كثيراً.
والتعزير منه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، وقد يكون بالقتل إذا لم تندفع المفسدة إلا به مثل قتل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما يجوز قتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله على رأي مالك وبعض أصحاب أحمد، واختاره ابن عقيل، ومثل ذلك التعزير بالعقوبات المالية: فإنه مشروع في مواطن مخصوصة في مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي، وجاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه بذلك من مواضع، منها أخذه شطر مال مانع الزكاة، ولإضعافه الغرم على سارق مالا قطع فيه، ومثل تحريق عليّ المكان الذي تباع فيه الخمر، وتحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية - قال ابن رشد في كتاب البيان: لصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبر أو عسل، أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في ذلك، فقد قال مالك في المدونة إن عمر بن الخطاب كان