مطامع الرئاسة فتركوه يتفلسف كما يشاء، وكان قصارى ما أصابه من ألسنتهم أنهم تندروا ببخله وزيفوا الأحاديث عن عشقه وغرامه، وسلم له رأسه إلا مما سرى إليه - فما قيل - من وجع في الركبة قد استعصى على العلاج والفارابي نظر إلى محيط السماوات وأعرض عن الأرض ومن عليها وقال في رياضته الهندسية ورياضته الفلسفية:
وما نحن إلا خطوط وقع ... ن على نقطة وقع مستوفز
محيط السموات أولى بنا ... ففيم التزاحم في المركز!
فقال له: دونك وما تشتهي من محيط السموات، ودعنا وما نتزاحم عليه من هذه المراكز والنقاط!
أما ابن سينا فقد زج بنفسه بين المتنازعين من الأمراء والرؤساء فزجوه في السجن وألجئوه إلى النفي وضيقوا عليه المسالك وعلموه طلب السلامة في زوايا الإهمال.
قال تلميذه ومريده أبو عبيد الجوزجاني (ثم سألوه تقلد الوزارة فتقلدها. ثم اتفق تشويش العسكر عليه وإشفاقهم منه على أنفسهم، فكبسوا داره أخذوه إلى الحبس أغاروا على أسبابه وأخذوا ما كان يملكه وسألوا الأمير قتله فامتنع منه، وعدل إلى نفيه عن الدولة طلباً لمرضاتهم، فتوارى في دار الشيخ أبي سعد. . .) إلى أن عاد.
فالعلة في الأرض لا في السماء.
والمصيبة من (الطبيعة) لا مما وراء الطبيعة.
وآفة الرجل أنه أراد أن يكبح السلاح بالحكمة، ولو أستُطيع ذلك لاستطاعه أرسطو في سياسة الإسكندر. . وهيهات.
ثم مات الرجل في داره حينما زالت عنه رهبة السلطان ولم يمت في الحبس كما وهم بعضهم في قول بعض حاسديه:
رأيت ابن سينا يعادي الرجا ... ل وبالحبس مات أخس الممات
فلم يشف ما ناله بالشفا ... ولم ينج من موته بالنجاة
وإنما كان (الحبس) في اصطلاحهم بديلا من داء (الإمساك) في اصطلاح هذا الزمان!
وقد صدق هذا الحاسد الشامت حين رد البلية كلها إلى معاداة الرجال لا إلى معاداة الله أو معاداة رسل الله.