مجملة يأخذ منها المؤمن ما يأخذ بدون مناقشة، لأنها لا تحتمل المناقشة الذهنية على طريقة الذهن المعروفة.
ويكرر الأستاذ اعتراضه بقوله: ما بال كثرة المؤمنين من الجماهير تؤمن بدون حاجة إلى من يفلسف لها العقيدة لو كان الأمر في العقيدة يحتاج إلى التفكير الذهني. أو لا يعلم الأستاذ أن الجماهير تسير وراء تقاليد بيئتها بدون تفكير في أغلب الشئون؟ فإن كانت البيئة وثنية، فهي معها، وإن كانت موحدة، فهي معها، فلا يعتد القرآن بها، ولا يحتج بسلوكها وشهادتها، وإنما بشهادة أولي العلم:(شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم)؛ (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)؛ (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون).
وقد نبهت في مناسبات شتى إلى ما في القرآن من تفرد بأنه يقف العقل البشري عند حدوده، ولم يكلفه أن يسبح في غير عالمه، ولم يتحدث عن (الله) إلا للتعريف بصفاته وصنعه في الطبيعة التي هي مدرسة العقل ومدرجه وأداة تكوينه ومآخذ أحكامه. ولم يعبر عنه إلا بـ (الذي) خلق، (الذي) رفع السماوات (الذي) له ما في السماوات وما في الأرض. . . هكذا بالاسم الموصول المبهم بنفسه الموضَّح بصلته، وصلته دائماً من (معلومات) الفكر و (بداهاته) و (مدركاته) الحسية والمعنوية. . .
ولم يتحدث عن كنه الله إلا مرة واحدة على سبيل التمثيل، وهي (الله نور السموات والأرض)، ولكنه ليس تحديداً لكُنْه الذات العليا، ولكنه تقريب وتمثيل:(مثل نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب دري)؛ فالنفس تأخذ من هذا التمثيل أن الله هدى وجمال ولطف وإشراق غير محدود.
ووصف القرآن وصف منتزع من الطبيعة: كتاب الله الصامت، فما أثبته كلام الله الناطق له هو بعينه ما أثبتته الطبيعة كتابه الصامت، فلو لم يكن القرآن كتاب دين موحى به، لكان كتاب مذهب عقلي يصف (الذي) خلق هذا الكون بعد أن استقرأ أعمال يده وعلمه وقدرته في كل كائن من كائناتها.
فهو (الخالق البارئ المصور): لأن أعمال الخلق والبَرْء والتصوير في الطبيعة تشهد بذلك؛ وهو (الرحمن الرحيم): لأن يده دائماً مع الضعف والعجز بين جبروت المواد والقوىْ العمياء، حامية حافظة لطيفة رقيقة؛ وهو (الملك): لأننا لم نجد لغيره شركاً في السموات