وأوى الملك إلى سريره بعد ما صرم أكثر ليله يعدّ قوته ويقيم مسالحه، وكان يؤنسه أن يستمع في هدأة الليل إلى هذا الهتاف البعيد، وإلى صليل الأبواق، وهزيم الطبول، وهو يطرز حواشي السكون في هذا الليل الساجي، إنهم جنده الذين خاضوا معه لجج القتال المر، وشاركوه جنى النصر الحلو، على أبواب قرطبة دار الصيد الأعزة من بني أمية يوم فتحت له أبواب قرطبة، وفي (الزلاقة) يوم ساق (الأذفونش) فيالقه وجيوشه، ليمحو بزعمه الإسلام من الأندلس فمحى جيشه، ولولا المعتمد وجنده ما هزم الأذفونش، ولكان المرابطون هم أصحاب الهزيمة يوم الزلاقة. . .
وأغفى الملك وهو يداعب ذكرى ذلك الظفر، ويطوي سمعه على ضجيج جيشة الذي يحبه ويعتز به، ويود لو أن هذا الجيش قصر عزمه وبأسه على قتال الأسبان، ولم يسئ إلى البطولة بحربه الأخوان المسلمين. . . ورأى الملك في منامه كأن هذا النشيد المدوي الذي نام عليه قد قوى واستفاض حتى رجعت أصلاد أشبيلية صليله وعزيفه، وعظم إرعاد تلك الطبول حتى أوشك أن يهز سريره بين جدران قصره، وخالطه صراخ وضوضاة، ففتح عينيه وأفاق مرتجفا، وأصاخ فسرعان ما أدرك: إنه العدو قد طرق المدينة، إنهم فرسان البربر الذين قلبوا له ظهور المجان، فتخلوا عن ثغورهم حيال الأسبان وأقبلوا عليه إقبال الذئاب الكواسر. . . ألئك هم الذين كانت تؤنسه أصواتهم، فيطوي عليها سمعه حين ينام!
وتلفت حوله فلم يجد إلا حرس القصر، وما كان حرس القصر رجال حرب، ولا فرسان ضراب؛ وأحس بالخطر، ورأى أنه قد كاد يفقد كل شئ. ولكنه لم يفقد الشرف ولا الشجاعة ولا النبل:
إن يسلب القوم العدى ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطباع أيس ... لب الشرف الرفيع
ولا يزال سيفه في يده، فخرج به وما عليه إلا غلالة رقيقة، لم يمهلوه حتى يلبس لامته ويدرع:
وبرزت ليس سوى القميص ... عن الحشا شئ دفوع
وأراد حرسه وأهله أن يجنبوه هذا الهلاك الأكيد، وأن يحسنوا له الموادعة حتى تنكسر حدة