للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الهجوم، وتمكن البادرة:

قالوا الخضوع سياسة ... فليبد منك لهم خضوع

فأبت له مروءته وحميته، ونفس تعاف العار حتى كأنما هو الكفر يوم الروع، أو دونه الكفر، ورأيت له ذكريات النصر ومواريث الجدود. . .

وألذ من طعم الخضوع ... على فمي السم النقيع

أمن الموت يفر وقد كان يتعشقه ويطلبه ويسعى إليه، ولا يفكر إذا خرج للقائه في أهل ولا ولد:

ما سرت قط إلى القتال ... وكان من أملي الرجوع

شيم الأولى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع

ولكنه كان يريده موتاً شريفاً نقياً، كالفتاة المكنونة في الحجاب، لم تدنسها نظرات الإثم ولم تعلق بجمالها الريب، وكان يهوى لقاءه في الملحمة الحمراء، فيلحقه فيفر منه ويتأبى عليه!. . . أما هذا الموت الذي يقبل عليه في غرفته إقبال اللص، ويلقاه في ضيق الدهاليز لا في رحب الميدان، وفي سدفة الليل لا في سفر النهار، ويريده في غلالة الشاعر لا في درع البطل، فهو لا يطلبه ولا يحبه بل لقد أحنقه ذلك عليه، وملأ صدره غيظاً منه، وكراهاً له، حتى نذر لئن واجه الموت هذه الليلة ليقتلن الموت! ولئن هو لم يقتل الموت، فلقد أحيا لمملكته الحياة، ولقد وفى نذره فرد هذه الغاشية التي اقتحمت عليه حصنه، على حين غفلة من أهله، كما يرد الهزبر الذئاب عن غابه.

وضوّأ النهار أشبيلية، وهي مقسمة الفؤاد بين فرح بالنصر، وجزع من الخطر، وكان جند الملك الأشاوس قد وقفوا للدفاع عنها، لا يفتئون كلما سمعوا همسة ريح، أو هدير نهر، أو صفير طائر، أو نبأة خفية بين الأرض والسماء، ويثبون إلى سيوفهم، يتطلعون أبداً إلى الطرق من فرط تشوقهم للقاء هذا الخصم المغير الذي كان بالأمس الحليف النصير فإذا لم يروا أحداً رجعوا إلى مسالحهم يقظين مرتقبين، وكانت الحصون حول البلد، وفي أطراف المملكة، محشوداً فيها الجند من كل كمي كأن قلبه من ثباته جلمد الصفا، وكان في أكبرها وأمنعها، شبلا ذلك الأسد، وفرعاً تلك الدوحة الكريمة الباسقة، الراضي بالله والمعتدّ بالله، ولدا المعتمد ابن عباد. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>