للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكان عصر ذلك اليوم وأهل أشبيلية لا يزالون يتغنون بمأثرة الملك الفارس، وقد فترت يقظة الجند حين توالى الأمان واطمأنوا إلى بُعد العدو. فاستراحوا قليلا بعد هذه الليلة الجاهدة؛ في تلك الساعة صرخ النذير كما ينفخ في الصور فتجمع العسكر المكدود على عجل، وصدمتهم فرسان البربر من جهة البر ومن الوادي صدمة تحط الصخر من ذراه، ولكنهم وجدوا المعتمد أثبت من الصخر وأيقظ من الصقر، فارتدوا بعدما فعلوا بالمدينة فعل الزلزال واستراحت أشبيلية أياماً، ثم جاء يوم الواقعة!

وفي يوم الأحد ٢٠ رجب سنة ٤٨٤هـ ارتجت أشبيلية بأضخم جيش وطئ ثراها، جيش أمير المسلمين ابن تاشفين، الذي حشد له من غطارفة المرابطين كل بطل غشمشم، ويقوده أبن أخيه كبش القوم وفارسهم سير بن أبي بكر، وجمع له فيه من قبائل البربر جناً مقاتلة كأنهم من طول ما ألفوا الخيل قد ولدوا على ظهورها، بعدة لهم ضخمة وعديد، فسدوا مطلع الشمس، وحطوا على البلد حط الجراد، وطوقوه تطويق القيد، وانضم إليهم فرسان الثغور، ثم أطبقوا على ابن عباد كالسيل الأتي الدفاع. . .

أثار المعتمد في نفوس جنده حميتهم وكبرياءهم، وأنشدهم أبرع أناشيد البطولة، ولون لهم الموت بأجمل الألوان، وعرض عليهم تحاسين المجد وتهاويله، فثبتوا وجاءوا من فنون القتال بأعجبها وأشرفها، وناضل الملك البطل حتى لم يبق مناضل، وضارب حتى تحطمت في يده السيوف، ودافع حتى استنفذ آخر نقطة من القوة البشرية التي أودعها الله فيه، ثم سقط مغسلا بدماء جراحه، وتحطم السد فانطلق السيل. . . ونفضت قصور الملك عن غيدها وكنوزها، فعادت أطلالا. . . وهوى الصرح الذي أقامه على النيل والحزم والكرم الغر البهاليل بنو عباد.

إن البطل الحق لا يستهويه الظفر حتى يستخفه، ولا تعزه الهزيمة حتى تسحقه، بل يتلقاها بعزم جلد وفؤاد ثابت، وكذلك فعل المعتمد فلم تذل نفسه ولم يضرع ولم يتهافت. بل تلقى قضاء الله تلقي المؤمن. . . وكتب إلى ولديه يستنزلهما من حصنيهما حين قسره الغالبون فلم يجد إلا ذاك، وكتبت السيدة الكبرى أمهما، وكانا في حصنين أمنع من النجم. تهاوت الحصون وهما ثابتان. . . ولكن ماذا ينفع حصنان وقد باد الملك وماد العرش وساد المرابطون. . . فلما أطاعا ونزلا قتل الراضي على باب حصنه، واستصفى مال أخيه

<<  <  ج:
ص:  >  >>