وترك على شر حال، ثم اقتيد المعتمد وأهله مجردين من الأموال، مقيدين بالقيود الثقال، ليلقوا ما قدر عليهم في صحراء المغرب.
كان إذا خرج موكب المعتمد أطلت عليه كل فتاة في حمص تختزن صورته لتزين بها أجمل رؤاها، وأحلى أحلامها، وتطلع إليه كل شاب ينقش رسمه على شغاف قلبه ليجعله مثلا له في المعالي، وملأ عينه منه كل أندلسي لأنهم كانوا يحسون أنه عز لهم وفخر، وأنه حبيب إلى قلب كل أندلسي، وإن عاد مظفراً قاموا على طريقه يرشقونه بأجمل أزهار الجنة. أما اليوم فقد خرجوا بغير ورد ولا زهر. خرجوا وما أعدوا إلا عيوناً تبكي لو استطاعت بدل الدمع دماً، وقلوباً تفديه بحبّاتها لو كان يمكن الفداء، وجرى النهر ذلك اليوم متطامناً خافت الخرير، لا يصخب ولا يهدر، كأنه هو الآخر قد أحس بالألم:
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزباد
وكانوا ساكتين قد عقدت الذهلة ألسنتهم، وأمسكت الأحزان وسيوف المرابطين أفواههم، حتى الأطفال لم يكن فيهم من يبكي أو يصرخ، حتى إذا قدمت بنات الملك الأسير يجرهن جند من البرابرة جر الشياه إلى المسلخ، وقد:
حط القناع فلم تستر مخدرة ... ومزقت أوجه تمزيق أبراد
أوجه تزرى بالأقمار، وأجسام ألطف من الياسمين الغض، وأرق من شعاع البدر على البحيرة الصافية في ليلة غرام. ثم طلع الملك لا تاج على رأسه، ولا سيف في يده، ولا لواء يخفق على هامته، ولا جند من حوله يفدونه بالأرواح ويبذلون دونه حر الدماء؛ بل حوله جند من البربر، وفي يديه قيود ثقال، وما عليه إلا أطمار - تفجرت الأحزان مدامع، وانشقت القلوب صرخات، وتحركوا لنصرة الملك، ولكن البربر كانوا خلالهم ومن فوقهم ومن تحتهم. . .
حان الوداع فضجت كل صارخة ... وصارخ من مفداة ومن فادي
ووضعوا الملك في السفينة، ومن حوله نساؤه وبناته مقرونات بالحبال، مطرقات كاسرات الطرف تلوح قطرات دموعهن في ضياء الشمس كاللآلى:
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا ... سيقوا على نسق في حبل مقتاد
ورفع الملك رأسه ونظر إلى جنده، وأنتزع من آلامه ابتسامة لاحت على شفتيه كما تلوح