خيوط الشمس لحظة خلال السحاب في يوم غائم، وحاول أن يقول فضاع صوته في عويل الناس وصخب البربر، وأراد أن يشير بيده التي طالما هز بها أعواد منبر وطالما أشار بها إلى ظفر. فحركت إليه الكتائب السود، وطالما أغنى بها فقيراً، وفك أسيراً، وأجاز شاعراً، وفعل بها المكرمات؛ أراد أن يشير بها فأثقلها حديد القيود، فأحنى رأسه وأطرق و. .
سارت سفائنهم والنوح يتبعها ... كأنها إبل يحدو بها الحادي
وعاد الناس إلى بيوتهم وما يصدقون أنهم فقدوا المعتمد ابن عباد. . . أفي عشية وضحاها، يطمس كتاب كله مجد وكرم ألف في عشرين سنة؟ ألم يعد يطلع عليهم موكب الشاعر الذي يغني للحياة أجمل أغانيها، ولا الفارس الذي ينظم للبطولة أروع أناشيدها. إنهم لا يستطيعون أن يصدقوا، فهرعوا (يثبتون) إلى تلك القصور التي ارتضاها لسكناه المجد، واختارها الفن، وأقام فيها النبل. فلما بلغوا أسوارها لاحت لهم من بعيد كأنها لا تزال عامرة بالملك الهمام. فلما اقتربوا منها لم يصافح أسماعهم صوت شاعر بنشيد ولا قائد بنداء، ولم تأخذ أبصارهم علماً يخفق، ولا راية ترفرف، ثم بدت لهم الرياض وقد جف نبتها وصوح زهرها، والدور قد هدمت جدرانها وهدت أركانها، وإذا القصر الذي كان يعبق بريا القرنفل وشذا الفل تفوح منه روائح الموت، وإذا تلك الغرف والمقاصير التي كانت تسطع فيها الأضواء فترقص أشعتها على العمد المزخرف والأساطين المنقوشة؛ قد محي نقشها وطمس زخرفها وعشش فيها البلى. . . هنالك علموا أنها قد وقعت الواقعة وكان ما قدر الله أن يكون:
عرينة دخلتها النائبات على ... أسود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا بادي
فمن المعفاة تعمهم جدواه؟ من للجيران تحميهم بواتره وتحييهم عطاياه؟ من للفرسان الغطاريف يقودهم إلى النصر حين يخفي على الدليل سبيل النصر؟
لقد ذهب من كان لهم. . . فيا مَنْ يقصد الملك الشاعر، إنه لم يبق هنا ملك، أنها قد خلت منه داره، وبعد مزاره:
يا ضيف، أقفر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه ... خف القطين وجف الزرع في الوادي