قريظة أكثر انتفاعا بحكم المساواة الذي جاء به الإسلام، وكان جميل الإسلام عليهم أكثر من جميله على غيرهم.
وقد جمع الإسلام بين أبناء هذا الوطن من المسلمين واليهود بمعاهدة حفظت لكل فريق منهم حقه فيه، ولم تجعل لما بينهم من الخلاف في الدين أثراً في التفرقة بينهم، وقضت على كل فريق أن يقوم بالدفاع عن الفريق الآخر إذا قصده عدو، كما قضت عليهم جميعاً بحق الذب عن هذا الوطن إذا قصده فريق من الناس بأذى.
ولكن اليهود لم يلبثوا أن تنكروا لحق هذا الوطن عليهم، ولجميل الإسلام الذي بدلهم من الخوف أمناً، ومن الحرب والفوضى والاضطراب سلاماً ونظاماً واستقراراً، فأخذوا يكيدون للمسلمين، ويعملون على إيقاع الفتنة بين الأوس والخزرج، ليعودوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام ممن الحرب والخصام. ولما ضاق النبي صلى الله عليه وسلم بدسائسهم أجلى بني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة، فذهبوا إلى أذرعات بالشام، ثم أجلى بني النضير في السنة الرابع من الهجرة، فنزل بعضهم بخبير، ونزل بعضهم بأذرعات.
ثم جاءت نوبة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة، فكان جرمها أشد، وكانت خيانتها لذلك الوطن أعظم، لأنها جاوزت تدبير الفتن الداخلية إلى ارتكاب الخيانة العظمى، وهي الانضمام إلى أعداء هذا الوطن وقت مهاجمتهم له، فلم يكتفوا بترك الواجب عليهم من الدفاع عنه مع المسلمين، بل انقلبوا عليهم مع أعدائهم من المشركين.
فإنه في السنة الخامسة من الهجرة ذهب جمع من بني النضير إلى مكة فقابلوا رؤساء قريش، وحرضوهم على قتال المسلمين، فقالوا لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، وفي ذلك نزل قوله تعالى في الآية ٥١ من سورة النساء (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبْتِ والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا). .
ثم جمعوا جيشاً عظيما من العرب واليهود يبلغ أكثر من عشرة آلاف، وقصدوا المدينة بهذا الجمع الذي لا طاقة لها به، فلم يجد المسلمون إلا أن يحفروا حولها خندقاً ليساعدهم على الدفاع عنها، وقد استعاروا من بني قريظة آلات كثيرة من المساحي وغيرها، فاستعانوا بها