لمعالجة الجرحى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي به، فحملوه على حماره إلى مجلس الحكم، وقد التف به جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبيِّ في مواليه. يعنون ما فعله عبد الله بن أبي رئيس المنافقين مع بني قينقاع، فقال لهم سعد: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. ولما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه. فقاموا فأنزلوه وقالوا له: إن رسول الله قد ولاَّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: احكم فيهم يا سعد.
فالتفت سعد إلى الجهة التي ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت. فقالوا: نعم.
ثم التفت إلى الجهة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وعلى من هنا كذلك. وهو غاضُّ طرفه إجلالا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نعم. فقال سعد: فإني أحكم أن تقتل الرجال وتسبى النساء والذرية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد. ثم أمر بتنفيذ الحكم فيهم، فخرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق ضرب أعناقهم فيها ثم طمرهها عليهم، وكانوا نحو ستمائة رجل.
وهذا الحكم هو ما تقضي به كل الشرائع القديمة والحديثة فيمن يخون وطنه ويحارب قومه مع أعدائه، وهذه الجريمة من الخطورة بمكان عظيم في كل تلك الشرائع، فلا تأخذها رأفة بمن يرتكبها، بل تأخذه بأقصى ما يكون من العقوبة، وهو عقوبة القتل. وقد كان بنو قريظة يريدون استئصال المسلمين بمساعدة أولئك المشركين، فليجازوا قتلا بقتل، واستئصالا باستئصال. وقد جازاهم الإسلام بذلك كما يجازي كل من يرتكب مثل ما ارتكبوا ولو لم يكن يهودياً، لأنه لا يعرف في حكمه فرقاً بين مسلم ويهودي ونصراني، ولا ينظر في تشريعه إلا إلى الجناية في ذاتها، فيعطيها حكمها بقطع النظر عمن يرتكبها.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى رجال بني قريظة في ذلك كأسرى حرب، لأنه لم يفعل مع الأسرى في حروبه ما فعله معهم، وإنما نظر إليهم كمجرمين خانوا وطنهم، وانضموا إلى أعدائه في محاربته، فأجرى عليهم حكم وطنهم في هذه الخيانة، وكان أمرهم عنده أشد من أمر أسرى الحرب، لأن المحاربين يساقون بعدواتهم إلى حرب أعدائهم، وأما الخائنون لأوطانهم وعهودهم فلا عذر لهم في خيانتهم، ولا يستحقون من الرأفة ما يستحقه