المهدي) غير صريحة النسبة، ولا تذكر تاريخاً معيناً مما يحدو بنا إلى رفضها. نعيد ما قلناه من أن حماداً لم يدرك عصر المهدي، ومن أن رواية ابن خلكان ضعيفة، لنصل من هذا إلى أن قصة حماد مع الخليفة المهدي قصة باطلة كاذبة، وإلى أنها إنما اخترعت اختراعاً ولفقت تلفيقاً. اخترعت ولفقت في سبيل النيل من حماد، ورفع قدر المفضل. وإلا فما رأيك في قصة تنتظم ثلاثة فصول؟ فصلا يحادث فيه المهدي المفضل وحده؛ وفصلا يحادث فيه المهدي حماداً وحده؛ ثم فصلا كأنه خاتمة يخرج فيه حماد والمفضل معاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ويرجع فيه الخادم معهما فيقول: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته؛ فمن أراد أن يسمع شعراً جيدا محدثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فما رأيك في قصة قد فصلت تفصيلا، ونسقت تنسيقاً، وقسمت فصولا؟ وما رأيك في كلام الخادم؟ ألا ترى أنه شبيه بكلام من يروج بضاعة في سوق؟ ثم ألا ترى أنه يفاضل بين رواية حماد ورواية المفضل في تفصيل ودقة كأنه ناقد خبير، لا خادم أجير؟ أظنك ترى بعد هذا أن هذه قصة باطلة كاذبة، فقد اخترعت اختراعاً ولفقت تلفيقاً. ثم إن الجاحظ في البيان والتبيين (ج ٢ ص ٢٠٢ - ٢٠٣ ط السندوبي) يذكر رواية من شأنها تكذيب هذه القصة. يقول الجاحظ:(أبو الحسن قال: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي، فخلى سبيله وأكرمه وقرب مجلسه، فقال له يوماً: أنشدني قصيدة زهير التي أولها (لمن الديار بقُنَّة الحَجْر) وهي التي على الراء:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوَيْنَ مذْ حِجَجٍ ومذْ دَهرِ
فأنشده، فقال المهدي: ذهب والله من يقول مثل هذا! قال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا! فغضب المهدي واستجهله ونحَّاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس). فأنت ترى من هذه الرواية أن المهدي يعلم مطلع القصيدة؛ وهو ما تقول القصة إن حماداً صنعه في حضرة المهدي، وأنه أقر بصنعه إياه بعد استحلافه.