(أذهب إلى المحطات والمرافئ تجد هناك رجالا ونساء كأن قلوبهم قد ربط بعضها ببعض لا يضيعون لحظة من الزمن وإنما يتحادثون فيها ولو بتكلف، وإذا لم يتمكنوا من الكلام غابوا في أحلام هناك كأن البرهة تساوي زمنا طويلا لا نهاية له، وتر هناك أيضاً الأيدي في الأيدي، والأذرع بالأكتاف، والأفواه بالأفواه كأنها مشدودة ملتصقة لما تنفك بعد، فإذا اتفق أن تصفر الباخرة أو القاطرة، انقطعت المحادثات، واستيقظ الحالمون، وانفكت الأيدي والأذرع المشدودة وسالت الدموع من عيونهم سيلان الماء من الينبوع، وإني أرى هذه المناظر حقيرة مضحكة ولكن إذا ذهبت إلى هناك جدت الدمع بدون تعب ولا مشقة) وأجاب الرجل قائلا (لا أريد هذه الدموع، لأنها دموع الحب والغرام، وإنها كثيرة جداً يسهل على أن أجدها كنت أريدها لذهبت إلى المحطات والمرافئ منذ زمن).
وقال الرجل المتفائل:(إذ لم ترد هذه الدموع، فاذهب إلى أحجار الأمهات أو إلى المهاد تجد فيها أطفالا راقدين تعجبك وجوههم الحمراء الجميلة وشعورهم الصفراء الخفيفة وعيونهم السوداء المنيرة وتدعوك إلى رحمتهم والعطف عليهم، وتراهم يبكون فجأة بكاء شديدا ثم يقطعون البكاء بدون تكلف، ولا تكون دموعهم أكثر من دموع الرجال والنساء المذكورين، ولكنني أظن أنها تكفيك وتقنع أملك، فاذهب إلى هناك).
فأجاب الرجل قائلا:(لا أريد هذه الدموع أيضاً لآنها دموع الطفولة وهي موجودة في كل بيت يسهل على أن أجدها، ولو كنت أريدها لذهبت إلى أحجار الأمهات أو إلى المهاد باحثا فيها) قال الرجل المتفائل: (إذا أنت لم ترد هذه الدموع فاذهب إلى الملاهي ودور التمثيل تر على مسارحها رجالا ونساء يمثلون أحيانا روايات محزنة خيالية كأنها حقيقية ويقومون بأدوار مضحكة ومناظر محتقرة كموت زوج المرأة أو مصرع قائد الجيش، للدفاع عن بلاده أو حب الفتى والفتاة وتعذر اجتماعها أو غير ذلك وإذا مثلوا الرواية ووصلوا إلى أشد الأمور حزنا وأغمها بكوا بكاء شديدا ونز لت الدموع من عيونهم، ولا يهمنا أن تكون الرواية حقيقية أو كاذبة فع لى كل حال هم يبكون وستجد في عيونهم الدموع، فاذهب إلى الملاهي وابحث عن الدموع في مسارحها) فأجاب الرجل قائلا: (لا أريد هذه الدموع كذلك، لأنها دموع خيالية كاذبة ووجودهم لا اعتبار له في العالم، فلماذا أذهب إلى الملاهي؟) ولم