وفي كلُّ هذا كانت السياسة الأوربية تقف من حركات العرب موقف المقاومة والتثبيط، لأنها عملت على بقاء الأمم العربية في حوزة الدولة العثمانية، محرومة جهد المستطاع من حقوق السيادة والاستقلال.
ولم تفلح هذه المقاومة إلا ريثما استجدت تلك الأمم نشاطها وتحفزت مرة أخرى للوثوب إلى غايتها.
فقامت في مصر حركة المطالبة بمصر للمصريين، وقامت في السودان حركة (التُرُك) كما كانوا يسمون الأجانب أجمعين، وقامت في بلاد العرب دعوة واحدة إلى الاستقلال، ولكنها كانت تمتحن من آونة إلى أخرى بمحنة المنافسة بين زعماء العشائر وأمراء الأقاليم، ودخل السوريون واللبنانيون والعراقيون في حزب تركيا الفتاة؛ لأنه الحزب الذي كان يمنيهم بالحكومة (اللامركزية) أي حكومة العرب في بلادهم، كما يشاءون، وبمن يشاءون.
وفي هذا الدور أيضاً في من أدوار القضية العربية كانت لسياسة الأوربية تخذل العرب أو تمنعهم أن يبلغوا من الاستقلال غاية ما يقدرون عليه.
ثم نشبت حرب الأمم قبل ثلاثين سنة فتحركت الجامعة العربية من جديد، تارة على هدى وتارة على ضلال، فتسابقت دول أوربا إلى كسب الأنصار من أمم العرب التي استقلت أو طمحت إلى الاستقلال، وانتهت الحرب والأمم العربية جمعاء متفقة على المطالبة على الحرية والمناداة باسم العروبة في جامعة تتوافر لأعضائها حقوق الاستقلال.
وعلى ما كان من موقف أوربا في المقاومة والتثبيط كانت لها فلتات هنا وفلتات هناك تبدر منها حيناً بعد حين؛ في سبيل التشجيع والإغراء.
فكان الإنجليز مثلاً يشجعون المناداة بمصر للمصريين لأنها تفصل مصر عن الدولة العثمانية، ولكنهم يثبطونها من جهة أخرى لأنها ثورة صريحة على الاحتلال البريطاني، وما عسى أن يتطور إليه من بسط الحماية البريطانية في صورة من صورها الكثيرة.
وكان الفرنسيون ينشئون المدارس في البلاد السورية، كما ينشئون بها المطابع والمجامع لنشر كتب العرب وثقافة العرب وإحياء التراث العربي القديم، سعياً إلى الفصل بين العرب والدولة العثمانية لا سعياً إلى استقلالهم عن جميع الطامعين، وفي طليعتهم الفرنسيون.