للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وفي هذه المخاوف، وعلى هذه الحال يتحدث هذا القائد بفتح المشرق والمغرب! ما أعظمها دعوى، وما أعجبها أمنية!

كذلك قال الذين رأوا عدداً قليلاً من الناس يحفر أرضاً ليتقى عدوه، ولم يروا ما وراء هذه الأجسام القليلة من معان كثيرة. قالوا:

(ألا تعجبون! يحدثكم ويُمنيّكم، ويعدكم الباطل. يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرُزوا).

(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً).

أجل من يرى هذه الجماعة القليلة تدرأ عن نفسها بهذه الحفيرة يعجب ألا يشغلها ضعفها، والهول الذي دهمها، والخوف الذي أحاط بها، عن التحدث بالفتح فتح المشرق والمغرب. إنها لإحدى الكُبَر.

- ٤ -

لا لا. لم تكن في المدينة جماعة قليلة ولكن كان الحق يصاول الباطل، والخير يدفع لشر، والإيمان ينازل الكفر، والتوحيد يواثب الشرك، والعزم يقابل الخورَ، والاجتماع يثبت للافتراق، والصبر يصمد للجزع، واليقين يتحدّى الشك. كانت معان تقاتل معاني. وما ضّر المعنى الظافر في سنة الله قلةُ أنصاره على الأرض؛ ولا نفع المعنى المنهزم في قانون الله كثرةُ سواده في الناس.

وما كان مسلمو الخندق يحادون قريشاً وغطفان ويهود وحدهم بل كانوا يحادّون الأمم كلها. لقد انقسم العالم يومئذ فريقين: أهل المدينة الذين يحفرون الخندق، ومن خارج المدينة في جزيرة العرب وفي غير الجزيرة من أقطار الأرض كلها. لقد كان هذا الخندق فاصلاً بين جماعتين: جماعة قليلة تحتضن حقاً وليداً، وتاريخاً جديداً، وتلتف حول عقيدة وشريعة وخلق، وبين سواد الأمم كلها يموجون في باطلهم، ويسيروا في مواكب للجهالة والإثم والعدوان والظلم، ويحوطون أوثاناً من الحجر أو أصناماً من البشر.

وما كان العرب إلا العدوّ الأدنى، عرف هذه الجماعة فحذرها، وكرهها فآذاها، ثم أشفق منها فائتمر بها وعزم ليأخذنّ عليها الطريق، وليمنعنها أن تنتشر على الأرض، وليفرقنّ جمعها، ويبدّدن نظامها، ويبطلنّ دعوتها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>