فكتاب العربية وشعراؤها عاشوا دائما بنجوة عن مجتمعهم لا يشتركون في تقلباته السياسية والاجتماعية، ولا يعبرون عن شعوره وحاجاته، ومن ثم ندر الأدب الوطني في العربية وإن كثر الأدب العصبي، وندر الشعر الاجتماعي، وكان جل شعر الشعراء فرديا يعبر عواطفهم وحاجاتهم الشخصية ويفيض بذم منافسيهم وأعدائهم الشخصيين ومدح أولياء نعمتهم من الكبراء والأمراء الذين يعتمدون عليهم دون الشعب ويبتغون رضاهم قبل رضا الشعب، فلم يكن هناك تواصل وتجاوب بين الأدباء ومجتمعهم ولا رغبة لدى الأدباء في معالجة شؤون المجتمع وتحليلها ومحاولة إصلاح فاسدها عن طريق أدبهم، فلم يقم في العربية أمثال أديسون وستيل ودكنز وجالزورذي من الأدباء الإنجليز الذين جعلوا إصلاح الأخلاق أو ترقية المرأة أو إنهاض العامل نصب أعينهم، ولا ريب أن هذا التواصل والتجاوب بين الأدباء والمجتمع واعتماد الأدباء على جمهور القراء دون هبات النبلاء أساس نمو القصة التي تصف المجتمع وتحلل الأخلاق، ولم تنشأ القصة الحديثة في أوربا في القرن الثامن عشر إلا بقيام ذلك التواصل والتجاوب بين الأدب والمجتمع، وكانت الطباعة التي سهلت انتشار الكتابات مساعدة لذلك ولا ريب.
وأما مكانة الشعر الممتازة لدى العرب - والتي لعله لم ينلها لدى أمة أخرى - فإنها ثبطت ماعدا الشعر منور الأدب، فقد كان الشعر لدى العرب هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة، فصرفهم شديد اعتدادهم به وتوفرهم عليه عما عداه، وأودعوه عواطفهم وأخبارهم وقصصهم، فلو أن الشعر ترك مجالا لغيره لاحتمل أن يلجأ أديب كأبي نواس إلى القصص يودعه أنباء لهوه ووقائع غرامه ويشرح فيه ما سبر من غور العواطف وبلا من سريرة المرأة سادلاً على شخصيته ستاراً رقّ أو كثف، ولربما كان منه في العربية نظير لموباسان في الفرنسية، ولكن الشعر كان كما تقدم هو الوسيلة للتعبير عن العواطف قبل كل وسيلة، فلميتردد أبو نواس في سلوك السبيل التي سلكها ابن أبى ربيعة من قبل، سبيل الشعر القصصي أو القصص المنظوم شعراً.
إن الناظر في أدب العرب وتاريخهم لا يسعه إلا أن يرى هذه الحقيقة بارزة: حقيقة أن الشعر نال من المنزلة عندهم ما لم يبلغ عند سواهم حتى طغى على ما دونه من ضروب