ولن أنسى ذلك الشيخ الأسود الذي وقف أمام باب الكعبة يبكي ويبلل لحيته ويجأر بالدعاء وينادي: اللهم أجمع قلوب المسلمين كما جمعت أجسامهم! ولا ذلك الهندي الساجد في نشيج ودموع بجوار مقام إبراهيم. . .
ولا تلك الزمرة من زنوج نيجريا في ثياب الإحرام البيضاء تتلو وراء المطوّف دعاءها في رطانة ولكنه ومع إتلاع الأعناق ومشية العزة والمسرة والشعور بالحضارة الروحية ولقاء قلوبهم مع قلوب غيرهم من الناس في ثقة ومحبة.
ولا تلك الأرتال السائرة على أقدامها على طريق مكة والمدينة أياماً وليالي تقصد زيارة المدينة، بعد أن جاءت من أعماق القارة السوداء (إفريقية)، والقارة العجوز (آسيا) يحدوها الحب، ويسوقها الإلهام إلى أرض التحرير والعتق من ظلمات الوثنيات والمثنويات والسحر الأسود والرهبة من القوي الجبارة المبهمة التي تطالعها من طلعات هاتين القارتين الغامضتين!
ويكفي أحدهم جوار الكعبة عاماً ليحصل علماً من جميع أجناس الأرض لم يكن ليجده عمره في دياره ولو عاش أبد الأبيد.
إن الحج نسك عجيب تفرد به الإسلام، وجعله مثاراً لعالم فني (سينمائي) ورمزي بجانب ماله من الآثار التعبدية والاجتماعية.
وكم ترك من آثار عميقة في حياة المسلمين وحياة الناس جميعاً وسير التاريخ العالمي إذ كان بمثابة الرياح التي تحمل البذور من مكان إلى مكان لتنتج خليطاً من الأنواع، فهو قد حمل الشخصية الإسلامية المتفرقة بافتراق البقاع على اللقاء في معهد واحد. وكما كان سبباً لاجتماع القبائل العربية في الجاهلية على معناها العام ووحدتها وعرض أمجادها في أسواق الدين والتجارة واللغة، كذلك يحمل العالم الإسلامي بأممه المختلفة على اللقاء الدائم في عصور التاريخ. فالعالم الإسلامي مدين له بجانب القرآن بوحدته الفريدة على مدى الأجيال.
وإنه لعمل عظيم في جذور الوحدة العربية والوحدة الإسلامية والوحدة العالمية.