يَسِرْ في حياته وفق العلم ولم يدرك بعد أن العلم هو الذي يدفع الأمم دفعاً في مضمار التقدم، وأن لا حياة لأمة تعيش بعيدة عن العلم، ولا كيان لشعب لا يؤسس حياته على العلم، فهو مفتاح النهوض وهو أُسُّ الارتقاء في معارج المجد والخلود.
هذا هو طابع المدنية الحديثة - طابع العلم - الذي دخل في صميم الحياة وانبثَّتْ حقائقه في شؤونها العملية منها وغير العملية.
هذا هو الوجه الحسن في الحضارة الحالية والجانب اللامع منها. ولكن مهلاً. . . هناك ناحية ضعف أدت إلى ما نراه في المدنية من إفلاس، ومن عدم ملاءمتها للحياة الهادئة القائمة على قواعد الخلق والروح والفضائل.
لقد أستغل العلماء العلم بعيداً عن قوى الروح والقلب، فأعلوا من شأن العقل والعلم علواً كبيراً، وحكموا العقل في القلب كما حكموا العلم في الدين فنتج عن ذلك ما نراه من فوضى خلقية وحروب طاحنة رهيبة، فاستأسدت الغرائز وأسرفت المطامع فإذا آلة العلم تتجه نحو التدمير والتخريب والفتك والتقتيل حتى أصبحت القوة مقياس تقدم الأمة وعظمتها، ولو تدخل القلب واتجهت آلة العلم نحو البناء والإثمار والخير والكمال لسمت المدنية وأرتفع شأن الإنسانية ولسار العلم في خدمة الحياة وإعلاء مقامها.
ومن هنا يتبين أن الأمم لا تصلح بالعلم بقدر ما تصلح بالقلب والأخلاق، أن التقدم الذي وصل إليه الإنسان - وقد توافرت فيه أسباب الرفاهية والرخاء - لم ينج الإنسانية من المصائب المحيطة بها ولا من الأهوال التي تنصب عليها.
هل قضى هذا التقدم على المشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع؟
الواقع المشاهد أن المدنية الحديثة قد زادت المشاكل تعقيداً والتواءً كما سلبت العالم راحة البال وطمأنينة النفس، ذلك لأن حكمة الإنسان قد قصرت عن تثقيف الرغبات والنوازع الإنسانية غير حاسبة حساباً للخلق العالي ومعاني الحق والواجب والمثل العليا.
والذي يخشاه كبار الفلاسفة أن الحكمة البشرية إذا أفلست في النهوض بعبء إدماج العلم في أغراض الروح والخلق استمرت هذه القوى في اتجاهها نحو التدمير وهددت بزوال ما بقي من معالم الحضارة آثار الفكر والعقل.
وعندئذ يسكن العلم المصنع، ويطغي العلم على القلب، والماديات على المعنويات فتبقى