على أن المنصور كان ألين منه، وأندى سمعاً للنساء. فقد تزوج ابنة منصور الحميرية، فشرطت عليه أن لا يتزوج ولا يتسرى إلا عن أمرها، ففعل. ولم يتعد سلطانها زوجها.
وبدأ سلطان المرأة يقوى مذ تولى المهدي الخلافة، وتزوج الخيزران. فقد كان لها سلطان على القصر، والندماء والحجاب والأطباء، تقرّب منهم من تشاء وتبعد من تشاء. ولقد أخذت مرة في مناكدة بختيشوع بن جورجيس الطبيب ومضاربته، وأثرت في المهدي، فلم ير بداً من إعادته إلى جند يسابور.
فلما ولي الخلافة الهادي زاد نفوذ الخيزران وتدخلها في شؤون الدولة. وقد كان الهادي يتناول المسكر، ويلعب ويلهو، ويركب حماراً فارهاً، ولا يقيم للخلافة أبهة ولا عظمة؛ فلا عجب ممن كان هذا شأنه إن وكل أمور الدولة كلها إلى أمه الخيزران. فقد كان كثير الطاعة لها يجيبها فيما تسأل من الحوائج. فكانت المواكب لا تخلو من بابها. وبلغ الأمر بها أن استولت على زمام الأمور. واستيقظ الهادي من غفوته أو غفلته، ورأى أن أمور الدولة بين يدي أمه. فكلمته ذات يوم في أمر، فلم يجد إلى إجابتها سبيلا فاعتل بعلة، فقالت لابد من إجابتي. قال لا أفعل. قالت: إذاً لا أسألك حاجة أبداً. قال إذاً والله لا أبالي، ولئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك). ثم أخذ يعنفها ويؤنبها ويقول لها:(ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك، إياك إياك أن تفتحي فاك في حاجة لمسلم ولا ذمي).
وكانت الخيزران من ذوات الأثرة. وهذا النوع من النساء لا يبالي بما يفعل في سبيل إرضاء الأثرة والأنانية وبسط النفوذ. ولقد كانت ترغب في الأمر والنهي والحكم. فوقف الهادي - بعد أن اتسع الخرق - ليسترد سلطانه. فلما ضايقها الأمر، وآنست من ابنها معارضة وقوة، وآلمها أن يذهب سلطانها، وترد المواكب عن بابها، أرادت أن تنتقم منه، فدست إليه جواري من جواريها، غطين وجهه وجلسن فوقه، فقتلنه. كل ذلك ليعود الأمر إليها وحدها كما كان. وقد تم لها ما أرادت وتدفقت عليها الأموال، حتى بلغت غلتها قبيل موتها مائة ألف ألف، وستين ألف درهم. وقد قدر أحدهم أن هذا المبلغ يعادل نصف خراج المملكة العباسية آنئذ وثلثبي غلة رو كفلر في أوائل هذا القرن.